د. حسن بن فهد الهويمل
تتغير الولاءات، وقد يخفت ضجيج الانتماء، لغياب الحاجة إليه. فالأمن، والاستقرار، واجتماع الكلمة، وغياب الفتن، والخوفِ، يخفت معه الحديث عن المواطنة. بل تكاد الأوضاع الطبيعية تنسي الناس ذلك.
لم أسمع من الجيل الذي سبقني حديثاً عن الانتماء، فالناس في غفلة عن هذا.
حتى كبار السن عندما يسمعون استحضار [الوطن] الساكن في أعماقهم، يأخذهم شيءٌ من التساؤل:-
- مالذي حدث؟
- وهل تغير شيء في الكون؟
لأنهم عاشوا الأمن، والاستقرار، والسمع، والطاعة، والولاء الصادق. حتى لكأن [الملك عبدالعزيز] يحكم الكون كله.
فالوطن الذي لملم أطرافه بمشاركة المواطن بنفسه، وماله، وسلاحه، لا يمكن أن يزايد عليه.
اليوم تغير كل شيء، حتى لقد أصبح العالم كله تحت سمع المواطن، وبصره. يهتم، ويتابع، ويسمع بالأحزاب، والطوائف، ويشاهد الأحداث الدامية:- صوتاً، وصورة. قلق، وخوف، واضطراب، وأصبح الوطن في نزاع بين تعدد الولاءات.
كل مواطن يرى ما حوله، ومن حوله في أمر مريج، لا بد أن يكون [الوطن] كلَّ شيء عنده. يقرأ الأحداث، ويتابع الوصف، والتحليل. وقد تستهويه انتماءات حزبية، أو طائفية، تخالف سياسة دولته، وتؤثر على اللحمة الوطنية.
لقد بدأ الاضطراب الفكري عندما تخطى العلماءُ، والمفكرون ميادين لززهم إلى مشاهد العامة، وانتقل الحِجَاجُ من الأدمغة إلى الأرض. والدوله -أي دولة- تتابع كل هذه الأشياء، وتجتهد ماوسعها الاجتهاد لجمع الكلمة، وتوحيد الصف، والهدف، وتقوية اللحمة الوطنية، لاتقاء الفتن ما ظهر منها، وما بطن. وهي لكي تجمع الكلمة لا بد أن تكرس المواطنة، وأن تذكر الناس بأهمية المأوى، الخطورة في تبني الدولة لحزب، أو طائفة، وإكراه الناس على ذلك.
هذه التجاذبات كرست المصطلحات الحديثة، بل ألحَّت في تكريسها، وأصبح المواطن مسؤولاً عن إعلان انتمائه، وتكريسه في الأذهان.
الوطن: أرض. وعقيدة. ودولة، ولا يمكن أن تتحقق المواطنة بدون هذا الثالوث الأهم.
إعلان الولاء، والمحبة، يتطلبان ترجمة فعلية لهذا. فالمسألة ليست مجرد شعارات فارغة، إذ ما أضر بالدول العسكرية الانقلابية إلا الهتافات الصاخبة الجوفاء.
المواطنة عقد اجتماعي بين أطراف متعددة. ولهذا قال الله تعالى:- {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} ولم يقل [ولي الأمر]. فكل من ولي أمراً من أمور المسلمين، كبُر، أو صغر فهو [ولي أمر]، تجب طاعته في غير معصية الله، وطاعته جزءٌ من طاعة الخليفة الذي يفوض المسؤوليات إلى ذوي الاختصاص.
الوطن له حق، لايقتصر على إعلان الولاء، والمحبة، والإخلاص. لا بد من تحقيق المقتضيات، وترجمة المواطنة إلى عمل يتحقق من خلاله: الأمن، والاستقرار.
الوطن:- إنسان، وأرض. فلا قيمة للإنسان بدون أرض مكتملة الأهلية، ولا قيمة للأرض بلا إنسان يعمر، ويزرع، ويصنع، ويحمي.
فما المواصفات السليمة لهذه الثنائية. لا بد أن يكون الإنسان واعياً لمهماته، وحقوقه، وواجباته. الصدق، والأمانة، والإخلاص، والنزاهة، والوضوح، والالتزام، والإضافة:- [قيمة الإنسان ما يحسنه]، و[كن ابن من شئت واكتسب أدبا].
المواطنة السوية أن تنظر إلى مصلحة الجماعة، وأن تربط مصلحتك بمصلحتها، وأن تعمل على جمع الكلمة، وألا يرتبط عطاؤك بأخذك، فالمسألة ليست مقايضة.
المواطنة الواعية أن تشعر أن لوطنك أعداء، يعملون على تفكيك لحمته، وتفريق كلمته، وتشتيت شمله. عبر خطابات خَدَّاعة، تتحدث عن [الأممية]، و[الخلافة]، و[الحاكمية]، والإمامة المعصومة، وهي كلمات حق أريد بها باطل.
كل المتحدثين المغررين لم يحققوا شيئاً من ذلك في أوطانهم. إنها خطابات مغرقة في المثالية، أغرت السُّذَّج من الشباب المثالي، ودفعت بهم إلى أتون الفتن.
لا أحد يكره جمع كلمة المسلمين تحت خلافة راشدة، تجمع العربي، والأعجمي، والأبيض، والأسود. ولا أحد يكره وحدة الأمة، والأرض، والحكم بما أنزل الله. ولكن الإسلام وضع للواقع، وللقوة، وللضعف قيمة.
والذين ينادون بهذه القيم، فرطوا بأوطانهم، وخدموا أعداءهم، ولم يحققوا إلا الضعف، والهوان، والقتل، والدماء، والتشرد، وخيبة الأمل.
وأمام هذه الويلات التي أحاقت بالمسلمين، وأذهبت ريحهم، لا بد من مراجعة الحساب، والتخلي عن المثاليات، والأوهام، والخطب الرنانة الجوفاء.
الوطن بدون أمن، واستقرار، وتلاحم، وسلطة قوية قادرة على بنائه، والدفاع عن حوزته شعار فارغ.
[المواطن السعودي] عنده خطاب عملي، جَليٌّ، ليس بحاجة إلى السماع لأحد.
أمن، وإيمان، واستقرار، وتلاحم، وتراحم، واستقامة على المأمور، مع وجود التقصير المتوقع. وجنوح أي مواطن لأي فئة تحت أي ظرف إضرار متعمد بمصالح الأمة، ومكتسباتها، لا ندعي المثالية، ولا نباهي بالمكتسبات، ولا نسمح لأنفسنا بالتعالي فوق المساءلة، والنقد. ونظر أنفسنا في مرايا الآخرين. كل الناس خطاؤون:-
[وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه]
الوطن ليس أرضاً، وشواهق عمارات، إنه مجموعة قيم:-
[وما حب الديار شغفن قلبي]
ولأهمية الوطن فقد ربطه الله بالدين، فالإخراج من الديار، كالإخراج من الملة، بل الإخراج من الديار كقتل النفس سواء، بسواء.
الوطن هو الوجود، والزج به تحت أي شعار إخلال بالمواطنة. والرسول صلى الله عليه وسلم حين لم تتحقق له المواطنة السليمة في [مكة]، وهي وطنه، أذن الله له بالهجرة:-
[وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى]
إن بإمكان المكونات السكانية لكل وطن تهيئة الأجواء المناسبة للجميع ولن يتحقق ذلك إلا بالتعايش، والتصالح، والتعاذر، والتعاون في تهيئة الوطن ليكون مثابة للجميع. هذه الأخلاقيات، وتلك المفاهيم كفيلة باستيعاب كل الأطياف.
وإذ يكون الاختلاف حتماً، فإن على الجميع القبول به في إطار الاختلاف المعتبر، والتعايش في ظله بالتسامح، والوئام، وتفادي الاستفزاز، فإذا أغلقت بابك، وكففت لسانك، فالله وحده الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.