أحمد المغلوث
كان الجامع الكبير الذي يتوسط مدينته والمبني من الأحجار ذات اللون الأبيض والمكسوة جدرانه بالطين وبعدها بالجص المحروق.. كان يسمى بجامع «الإمام فيصل بن تركي» مئات من المصلين الذين توافدوا على الجامع مبكرًا للحصول على مكان في مقدمة الصفوف الأولى بعضهم جاء من أقصى المدينة من فرجان وأحياء مختلفة هذا الجامع تأسس في سنة 1271هـ وعبر العقود ظل رمزاً للطابع المعماري الذي اشتهرت به المنطقة بأعمدته وأروقته الضخمة وواصل دوره الديني حتى اليوم بعد إعادة بنائه بالأسمنت المسلح وبتصميم حديث وكان لهذا الجامع تأثيره الكبير على السكان فهو جامع لمختلف أبناء المدينة خاصة أبناء السنة.. أما أبناء الطائفة الشيعية فلهم مساجدهم «الحسينيات». كانت رائحة البخور في الجامع تعبق داخله وتختلط بأنفاس المصلين.. ويذكر جيدًا عند ما كان فتى كان صوت الشيخ محمد العبد القادر -رحمه الله- خفيضًا وله طابعه المميز وبالتالي يشده ويجعله حريصًا أن يأتي مبكرًا ليحظى بمكان قريب من المنبر.. هذه الليلة تأخر عن القدوم للجامع لظروف لم تكن متوقعة فلقد طلبت منه والدته أن يقوم بتوصيل «قدر» من الطعام لبيت خاله.. وعندما قام بالمهمة أسرع للجامع لكنه كان مزدحمًا والمصلين وصلوا إلى أبوابه الشرقية.. ووجد صعوبة كبيرة في تجاوز الصفوف واكتفى بما يجب أن يكتفي به في هذه الحالة فلقد بدأ أذان إقامة الصلاة. ولكن هنا كان حظه العاثر الوقوف إلى جانب رجل ضئيل الجسم يبدو أنه كان يدخن من بعد الإفطار حتى هذه اللحظة فلقد امتزجت رائحة جسمه وما يخرجه من أنفاس مشبعة برائحة الدخان اللف.. الذي «دخنه» طوال ما مضى من وقت.. ماذا يفعل.. كيف ينسحب ولقد أقيمت الصلاة، وبات سجينًا لرجل «التدخين» والمشكلة أنه لم يكن يضع على رأسه «غترة» وإلا كان لف بها وجهه وباتت كالماسك الذي يحميه من هذه الأنفاس الممتزجة بدخان جاره في الصلاة.. وتذكر رغم أنه لم يصخ السمع جيدا لقراءة الشيخ.. أن مضار التدخين عديدة بل إنها تصيب من جاور المدخن حتى من خلال أنفاسه لقد قرأ ذلك في مجلة «سندباد» بل وحتى في درس العلوم كان يشير المدرس الأزهري إلى أضرار التدخين، وكاد يعاتب الأستاذ حينها فلقد شاهده يومًا يخرج علبة سجائره المعدنية ويلف له سيجارة خلال رحلة المدرسه لعين أم سبعة. أذن استنشاق رائحة الدخان المنبعثة من بقايا هذا الرجل «المدخنة» ومن زفيره الكريه جعله في حالة لا يحسد عليها.. أسقط فييده ماذا يفعل.. كان جميع المصلين يتابعون الشيخ في اهتمام كبير.. إلا هو فلقد أتعبته وأبعدته رائحة الرجل النتنة عن حسن المتابعة.. وتصور لحظتها كأنه يرسم لوحة سريالية مزج فيها ضوء أنوار الجامع الضعيفة أيامها وسحبا دخانية تملأ الجامع مصدرها هذا الرجل الذي وضعه في خانة «إليك» مع أنه لا يعرف لعب الورق...