م. بدر بن ناصر الحمدان
في إحدى مراحل دراستي الجامعية، كان هناك مناقشة نهائية لمخرجات مشاريع الطلاب كالمعتاد في نهاية كل فصل دراسي، كان مشروعي عبارة عن تخطيط مجاورة سكنية في منطقة صحراوية، بذلت في دراسته وتخطيطه وتصميمه جهداً كبيراً على مدى أكثر من ثلاثة أشهر بقدر ماكنت أحمله آنذاك من معرفة ومهارة ما زالت في طور التدريب والتعليم.
حاولت أن أقدم في هذا المشروع فكرة نوعية ومختلفة وهذا ما كنا نتدرب عليه ونتعلمه من أساتذتنا الذين كانوا يحرصون دائماً على بناء شخصيتنا المهنية قبل تحصيلنا العلمي، ويعملون على غرس ثقافة أن يكون الطالب مستقلاً بأفكاره ورأيه الخاص.
في صباح المناقشة قمت بتعليق التصاميم على حائط العرض وبدأت في شرح الفكرة أمام الأساتذة المحكمين، وبعد سلسلة مناقشات لمراحل المشروع، وقف أستاذ «مُحَكِّم» من جنسية عربية وقال لي «هذه الأفكار أي كلام، وتصميم حذائي الذي ألبسه أفضل منها»، ثم هاجمني بشكل غير مبرر، وحاولت أن أدافع عن فكرة المشروع لكنه لم يمنحني أي فرصة لذلك، وكان في حالة انفعال شديدة، ورفض أن يستمع إلى أي تبرير، ثم عاد إلى كرسيه وهو يردد عبارة «هذا المشروع صفر كثير عليه».
حينها اعترض الأستاذ المشرف على أسلوب النقد وطلب منه الالتزام بآداب النقاش، وحدثت مشادة طويلة بينهما انتهت بانسحاب ذلك الأستاذ «المُحَكِّم» من القاعة، وبقيت أنا واقفاً في حالة «لاوعي» يرثى لها، وسط تعاطف الجميع.
رغم أنني حصلت على تقييم ممتاز في ذلك المشروع في نتيجته النهائية التي أنصفتني، إلا أن ذلك الموقف بقي عالقاً في ذاكرتي فترة طويلة من الزمن، وسبّب لي «فوبيا» كبيرة من مناقشة المشاريع الدراسية - آنذاك- ، وكاد أن يؤثر على ثقتي في نفسي في مرحلة حرجة جداً من حياتي الجامعية، لولا توفيق الله ثم تشجيع أساتذتي وزملائي الذين ساندوني وساعدوني على تجاوز تلك الفترة.
مرت الأيام، ومضت السنوات، وشاء الله العلي القدير أن يعيد التاريخ نفسه ولكن مع تبادل الأدوار والمسؤوليات هذه المرة، فبعد التحاقي بالعمل الحكومي صادف أن كنت مشرفاً على مشروع لدراسة عمرانية لإحدى المدن، وكان يتولى تنفيذها أحد المكاتب الاستشارية، ولم أنتظر كثيراً حتى أعرف أن مدير المشروع من طرف الاستشاري هو نفسه ذلك الأستاذ «المُحَكِّم» صاحب «الحذاء»، يا لهذا القدر، كانت مفارقة لم أتخيل أن تحدث يوماً، وفرصة سانحة لي للنيل منه.
في الاجتماع الأول مع الاستشاري لعرض خطة المشروع بدأ هذا الأستاذ بشرح الأعمال التنفيذية، وهو لا يعلم أن من يجلس أمامه في سدة الاجتماع هو أحد طلابه الذين كاد أن يقضي على مستقبلهم بسبب «غطرسته» و»غروره»، أثناء الشرح الذي كان يظهر على قدر كبير من «الاحترافية»، كنت أنظر إليه وأنا غارق في استرجاع سيناريو ذلك الموقف الذي مضى عليه أكثر من خمسة عشر سنة، لحظتها لم أكن أفكر سوى في طريقة «انتقام» مناسبة تكون كفيلة «بالثأر» من ذلك الرجل، وبما يليق بأثر «الحطام» الذي زرعه بداخلي، ولم يغادرني رغم كل هذه السنوات.
كنت أنتظر فقط أن ينتهي من عرضه للمشروع لأُجُهّز عليه وأمارس كل أساليب التحطيم ضده بحكم ما امتلكه من صلاحية في الإشراف على ذلك المشروع، ولكن من محاسن الصدف قررنا أن تكون المناقشة بعد صلاة الظهر، خرجنا لاستراحة الصلاة، في المصلى بدأت استعيد شيئاً من توازني، وهدوئي، وبدأت أفكر بشكل عقلاني، ثمة أخلاقيات وظيفية من واجبي الالتزام بها، وبالمقابل هناك اعتبارات أخرى شخصية لا يمكنني التجرد منها، ومن «الأمانة» عدم الخلط بينهما، عشت لحظتها صراعاً داخلياً صعباً، فأنا لن أستطيع الجمع بين «المهنية» و«العاطفة» أمام هذا الرجل الذي كاد أن «يجهز» عليّ يوماً.
حاولت أن أنأى بنفسي، وأن أكون على قدر من «العدالة» و«الإنصاف» أمام هذا العمل «المتقن» الذي قدمه، حينها قررت عدم العودة إلى ذلك الاجتماع، وكلفت أحد الزملاء بالحضور نيابة عني، ومن ثم توليه مسؤولية الإشراف على المشروع حتى نهايته، فأنا متصالح مع نفسي منذ زمن، وتعودت ألا أخوض أي معركة تقودني إلى الوحل.
في رحلة الحياة هناك مواقف صعبة حدثت لنا، يمكننا أن نتجاوزها، وربما نسامح من كان وراءها، لكن حتماً لا يمكن نسيانها، الأهم من ذلك ألا يكون «الانتقام» جزءا من ذاكرتنا.