د. خالد عبدالله الخميس
يحكي لي صاحبي أنهم في مسكن والدهم الطيني القديم، كانوا يعانون من ضيق باب المقلط، فعندما يريدون إدخال الصحون الكبيرة أثناء العزايم كانوا يميلون الصحن بشكل جانبي وكان هذا يُشكل أزمةً وعناءً كبيراً حتى أنه في إحدى المناسبات زل المفطح من أعلى الصحن إلا أنهم تمكنوا من السيطرة.
يقول صاحبي: وحالما انتقل الناس للبناء المسلح، كان الاقتراح الذي نؤكد فيه على مهندس المخطط هو عرض باب المقلط، ولما انتهت فلتنا الجديدة، كان كل واحد منا يطل على باب المقلط ويقف عنده مبتهجاً ويبصم بعلامة جودة الفلة، وهكذا أاختزلت تقييم جودة الفلة؛ بدءًا بقواعد الفلة وانتهاءً بوضع آخر قطعة أثاث فيها؛ على سعة «باب المقلط».
ويمكن تعريف ظاهرة «باب المقلط» أو «التحيز» بأنها تضخيم دور عامل واحد مع إغفال جميع العوامل المؤثرة الأخرى.
ظاهرة «باب المقلط» هي الأسلوب العام لأطروحاتنا الفكرية وطريقة مناقشتنا للقضايا الاجتماعية والسياسية والحياتية وطريقة بحثنا عن حلول لمشاكلنا العامة.
عندما نناقش أي قضية اجتماعية أو فكرية أو رياضية أو تعليمية أو مرورية ونضع لحل هذه القضية عاملاً واحدًا (سببًا واحدًا) فنحن لا ننظر إلا لباب المقلط.
ظاهرة «باب المقلط» ظاهرة منتشرة في حوارات مجالسنا العامة والخاصة، كنت بالأمس في مجلس عام ودار نقاش بين اثنين حول جودة التعليم، هل هو في الماضي أفضل من الحاضر؛ فالأول يرى أن التعليم في الماضي أفضل بداعي أن الأولين كانوا أجمل في خطوطهم الكتابية وأفضل في الإملاء، والثاني يؤكد على أفضلية التعليم في عصرنا الراهن بداعي أن تعامل مدرسي الحاضر أرقى من تعامل مدرسي الماضي. واستمر النقاش بين الاثنين على هذا الحال وكل واحد يجتر أفكار باب مقلطه.
إن كان من المقبول في مجالسنا العامة أن نركب موجة «باب المقلط» كوننا تستهدف التسلية والسواليف والحوارات الجماعية وليس الوصول لحقٍ أو باطل، لكن من غير المقبول أن تُستخدم ظاهرة باب المقلط في القرارات الإدارية في العمل المؤسسي، فالمواضيع التي يُتخذ فيها قرارات مبنية على عامل واحد «باب المقلط» فإنها قرارات فاشلة ويؤكد هذا الفشل هو إعادة النظر فيها بين فترة وأخرى.
ولو تأملت جميع القطاعات والمؤسسات تجد أن بعضاً من القرارات يعاد النظر فيها عدة مرات، والسبب في تكرار إعادة النظر فيها هو أن القرار مبني على عامل واحد أو عقلية باب المقلط.
والأمثلة على مثل هذه القرارات تكاد لا تحصى وعلى كافة القطاعات، خذ مثلاً في قطاع المرور، تجد مثلاً في بعض التقاطعات، يتم أحياناً وضع مطبات صناعية وأحياناً يتم إزالتها، فعندما يُوضع مطب يكون السبب (العامل) هو تلافي وقوع الحادث عند التقاطع، وعندما يزال المطب يكون العامل هو تجنب الحوادث عند موقع المطب.
وتجنباً للوقوع في فخ «باب المقلط» فليس لأحد أن يُرجح علو عامل على عامل آخر ما لم يكن لديه بينات وأرقام دالّة كي يوازن بين تلك العوامل ويتخذ بعد ذلك قراراً مناسباً ومدروساً.
إن ما نراه من تخبط في المشاكل المرورية أو المشاكل التعليمية أو الإدارية أو المجتمعية، تتلخص في اعتمادنا على تضخيم عامل على حساب عوامل أخرى.
حتى الأساتذة العاملين في القطاع الأكاديمي في الجامعات لم يسلموا من الوقوع في فخ «باب المقلط» رغم أن الأكاديميين متشبعين بالعقلية العلمية وموازنة العوامل المؤثرة على أي ظاهرة.
نعم، لم يسلموا من الخبط على زر «باب المقلط» عندما تُسلق بعض القرارات سلقاً رغم حرص المؤسسات الأكاديمية على التأكيد على وجود «مبررات أو حيثيات» عند صنع القرار.
ولعلي أن أكتفي بذكر مثال واحد عايشته من واقع تجربتي وهو يرمز لأمثلة عديدة في جميع الكليات والجامعات التي تتم معالجتها عبر باب المقلط، هناك إجراء معمول به قديماً في كلية التربية وهو عدم السماح للطالب الذي شارف على التخرج أن يُسجل مع مادة التدريب الميداني أي مادة أخرى، هذا القرار مرّ بعدة مراحل وبطل كل قرار هو عامل منحاز «باب مقلط»، ففي مرحلة يُسمح للطالب بتسجيل مادة واحدة مع التدريب الميداني، ومرة يُسمح بتسجيل مادتين، ومرة يُسمح بمادة واحدة بشرط أن يكون موعدها مسائي، ومرة نعود للمربع الأول بعدم السماح بتسجيل أي مادة مع التدريب الميداني مهما كان موعدها. الغريب في الأمر أن كل قرار يصدر يرتكز على مبررات وحيثيات، مرة تكون المبررات مساعدة الطلاب وتعجيل تخرجهم، ومرة ضبط حصص التدريب الميداني، لكن لم نشهد أن يأتي قرار يضع جميع المبرارات كعوامل أو متغيرات مستقلة ويُوضع لكل عامل ثقله المناسب ويتم اختيار قرار مستند على بيانات علمية.
هذا المثال له نُسخ طبق الأصل.
في أقسام أخرى ومؤسسات حكومية وغير حكومية مع اختلاف المضمون وبقاء السيناريو حيث التمرجح بين القرار والقرار المضاد الذي هو انعكاس لعقلية «باب مقلط» وعقلية «باب مقلط مضاد».
في الختام، إن أي نقاش حاد وعقيم بين اثنين أو بين فريقين أو فكرين هو ناتج لتأثير ظاهرة «باب المقلط»، وإن أي خلاف اجتماعي أو سياسي هو نتاج لظاهرة «باب المقلط»، وإن أي حروب شهدتها البشرية في ماضي عصورها وحاضرها هي نتاج لـ «باب المقلط».
أخيراً، عندما تدخل في حوار صاخب مع أحد بعقلية باب المقلط، ويحتد عليك في نقاشه، فاسأله بهدوء: أخي، كم سعة باب مقلطكم؟