د.عبد الرحمن الحبيب
النظام الاقتصادي العالمي، بعد الحرب العالمية الثانية، الذي انبثق عبر مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بدا أنه يعمل بنجاح حتى وصل ذروته بإنشاء مؤسسات عولمية على رأسها منظمة التجارة العالمية قبل ربع قرن.. إلا أنه منذ الأزمة المالية أواخر العقد الماضي، والعولمة الاقتصادية تتعرض لأزمات حادة وأصبحت تحت الحصار وأمام مدّ شعوبي يتنامى.. عن كيفية إصلاح هذا الوضع صدر كتاب «Straight Talk on Trade» (نقاش صريح حول التجارة) للبروفيسور بجامعة هارفرد داني رودريك..
منذ وقت ليس ببعيد، بدت الدولة الوطنية على فراش الموت، وحُكم عليها بالهامشية من قوى العولمة والتكنولوجيا. أما الآن فلقد عادت بانتقام، مدفوعة بأمواج شعبوية حول العالم. هذا ما يذكره رودريك وهو من أوائل منتقدي العولمة الاقتصادية المفرطة، لكنه يتخطى رد الفعل الشعبوي، ليقدم تفسيرات موضوعية عن هوس النخبة والتكنولوجيين بالعولمة مما جعل الأمر أكثر صعوبة على الدولة الوطنية لتحقيق أهدافها المشروعة الاقتصادية والاجتماعية (أمازون).
يناقش الكتاب التجارة الحرة وما تمثله من توترات بين العولمة والسيادة الوطنية، والديمقراطية والشعبوية، طارحاً رؤية وأفكار مبتكرة ترسم مسار التقدم العقلاني للاقتصاد العالمي وإعادة هندسة اقتصاد السوق، عبر استعادة توازن صحي بين اقتصاد العولمة والسيادة الوطنية.. بين حرية التجارة وعدالتها..
ينتقد رودريك القادة المشجعين للعولمة ليس لأنهم يعلون القيم التجارية فوق القيم الأخرى، بل لدعمهم ممارسات اقتصادية سيئة، فاحتضان الحكومات للتجارة الحرة المفرطة تبعه استحواذ الشركات على الأجندة الاقتصادية لبعض الدول.. كذلك يحذر من اضطرابات سوق العمل الناتجة من الأتمتة والتقنيات الرقمية الجديدة والذكاء الاصطناعي، لكنه يدافع عن اقتصاد عالمي تعددي تحتفظ فيه الدولة الوطنية باستقلالية كافية لتصميم عقدها الاجتماعي الخاص بها وتطوير استراتيجيات اقتصادية تتناسب مع احتياجاتها. رودريك، أيضاً، يلوم زملاءه الاقتصاديين لأنهم تخلوا عن المبادئ الأساسية للمهنة كمحللين وفاحصين للاقتصاد الاجتماعي والسياسي، وأصبحوا من كبار المشجعين للعولمة بغض النظر عما أنتجته من كوارث..
كيف نوازن بين العولمة والسيادة الوطنية؟ يرى رودريك أنه يمكن أن يكون لدينا قدر لا بأس به من العولمة، صحية ومستدامة، عبر السماح بمزيد من الحرية للبلدان لحل مشاكلها، بدلاً من افتراض أن الاقتصاد العالمي عبارة عن كتلة واحدة من القواعد تلتزم بها الدول.. كان لدينا مثل هذا النظام بين عامي 1945 و1980، ولم يكن معادياً للعولمة. الأهم حالياً هو العلاقة بين أمريكا والصين، علينا إدراك أن النموذج الاقتصادي الصيني سيظل مختلفاً؛ كما يتعين على الصين إدراك أن لدى الدول الغربية مخاوف مشروعة بشأن التجارة معها، وأن لتلك الدول الحق في حماية ترتيباتها الاجتماعية الخاصة وسلامة أنظمتها التكنولوجية.
وفي سؤال «فورين بولسي» عن المواجهة بين نهجين اقتصاديين مختلفين: الليبرالية الاقتصادية كالنهج الغربي والتجارية الجديدة (neomercantilism) كالنهج الصيني، أجاب رودريك: من الخطأ اعتبار الاقتصاد الأمريكي نموذجاً مثالياً للاقتصاد الليبرالي والصيني نموذجاً للاقتصاد التجاري؛ فكلاهما يمتلك مزيجاً متغيراً لهاتين الممارستين، والتصميم المناسب للاقتصاد العالمي هو بالأساس مزيج لخلطات مختلفة تتعايش جنباً إلى جنب، بدلاً من الافتراض ببساطة أن هذه الاختلافات ستتلاشى..
سؤال آخر: أنت تتحدث عن إصلاح اقتصاد السوق الحالي، هل نحتاج إلى لحظة بسمارك، مثلما حدث في أواخر القرن التاسع عشر، حيث كان هناك جهد واعٍ لتعديل الرأسمالية، والتعامل مع مخاوف العمال، وتأجيل الانتفاضة الاشتراكية؟ رودريك: أعتقد، بالضبط، أننا بوقت نحتاج فيه لإعادة تصميم مؤسسات الرأسمالية. تكمن الميزة الكبرى للرأسمالية أنها نظام قادر على إعادة اختراع نفسه والانتقال من نوع من النظام الليبرالي الكلاسيكي إلى دولة الرفاه، كان ذلك انتقالاً ضرورياً لقبول النظام الرأسمالي وبالتالي ضمان بقائه. أعتقد أننا الآن بمرحلة وصلت فيها دولة الرفاهية إلى حدودها.. والجزء الأكبر من التغيير الذي يجب حدوثه هو إعادة تنظيم كيفية إنتاج الأشياء، وليس كيفية التدخل فيما بعد إنتاج الشركات واستثماراتها..
يبدو رودريك مؤيداً للحمائية (تقييد التجارة بين الدول) قريباً من الشعبوية أحياناً، ويراه البعض مؤيداً مهذباً أكاديمياً لسياسات ترامب الحمائية. لكنه يرد على ذلك: لا أعتقد أن ترامب على صواب، إنما تم تمكينه من خلال مجموعة من المظالم المشروعة، ومن الأشخاص الذين وجدوا أنه ليس لديهم صوت مسموع، ووجدوا اهتماماتهم مهملة عبر سياسات العولمة المفرطة على حساب الأهداف المحلية. لكن فيما يتعلق بجدول أعمال ترامب وإجاباته وسياساته الفعلية، فأنا لا أتفق سوى مع القليل منها. مقابل ذلك تبدو أطروحات رودريك وكأنها تميل لليسار، إذ يقول في موضع آخر: «يشجعني إلى حد كبير الرؤية والجرأة التي تظهر من الجناح اليساري للحزب الديمقراطي».
فهل أطروحات رودريك تميل لأقصى اليمين أم اليسار؟ لا هذا ولا ذاك، بل يبدو أنه اقتصادي براغماتي، وليس عليك أن تتفق مع أطروحاته بقدر الاستفادة من تحليلاته للثغرات الخطيرة في العولمة، وتحذيراته بضرورة إجراء إصلاحات ضخمة فيها، لأننا حسب قوله، إذا واصلنا السير على طريق يؤدي إلى إنشاء مجتمعات منقسمة إلى حد كبير، من حيث الدخل والوضع الاجتماعي، فالعواقب ستكون خطيرة اقتصادياً وسياسياً.