سهام القحطاني
أكاد أجزم أن الإنسان خُلق مفطورًا على حب الحكايات، وهو أمر طبيعي؛ باعتبار حياة كل إنسان هي حكاية في ذاتها رغم تشابه الشكل العام لتلك الحكايات إلا أن لكل إنسان حكايته الخاصة هذه الخصوصية التي اكتسبتها من الاختلاف القائم بالحتمية في التفاصيل، تلك التفاصيل التي تخرج الأشياء عن «مسلّمة البحتية» فيسقط المعيار الدرامي بأن هناك «شرًا للشر» و»خيرًا للخير» وأن الشرير يظل شريرًا والخّير يظل خيرًا. فهذه المسلّمة ذات البعد الأحادي الخطي-الملائكية والشيطانية- اكتسبناها من صناعة الدراما وليست الحقيقية التي تتوافق مع واقع الإنسان في تطوره النفسي والسلوكي وارتباط خبرته بنواتج ذلك التطور.
كما أن هذه المسلّمة هي التي تفرق بين الإنسان كونه ممثلاً لحكاية في أصله من مولده إلى مماته، و صناعة الحكاية من خلال الإنسان الموجه من خلال صناعة الدراما.
اهتدى الإنسان الأول إلى «صناعة الحكاية»-ولذا قلت في فاتحة الموضوع أن الإنسان يكاد يكون مفطورًا على حب الحكايات- حتى أصبحت صناعة الحكايات جزءًا من معرفة الإنسان وأدبياته، ومع تطور الفكر الإنساني كانت تتطور الغاية من الحكايات.
كانت الحكاية في إرهاصاتها تمثل رمزية للفهم ومع توسع تأثيرها أصبحت مصدرًا للتوثيق بمعنى أنها أصبحت معادلاً للتاريخ، ومع زيادة توسعها تحولت إلى رمزية للمعرفة، إذ أصبحت مقياسًا لأساليب التحليل والاستقراء والتدليل، والذي بُني في ضوئه المسار التنظيري لعلم الاجتماع والفلسفة والأخلاق.
وُجِد الإنسان في البدء فردًا ثم ثنائيًا وبعد تكرار الثنائيات بدأت موجة السلالات، هذا التصاعد التناسلي من الفردية إلى الثانية ثم السلالية ادخلت الإنسان ذاته في غموض لتنظيم الانساق المتراكمية من ذلك التصاعد، أي مجموعة العلاقات بين الأفراد في اتجاهاتها الأبوية ثم اتجاهاتها نحو الآخر.
والأمر هنا كان يلزم تحديد التفريق بين ماهية الأنا والآخر، وكيفية صياغة كل منهما.
والحكاية هنا كانت معينا على تبلور نسقية تلك العلاقة سواء في تركيبها البسيط أو المعقد، بل أسهمت الحكاية أيضًا في تقديم صور ذهنية مشخصة للقيم السلوكية والفكرية في متضاداتها كالخير والشر وصورهما، ثم تطورت تلك القيمة في زيها التشخيصي لتضم مفاهيم معقدة مثل الولاء والانتماء.
والزي التشخيصي لم يكن قاصرًا على الهيئة الإنسانية بل تشاركت المخلوقات أيضًا في دراما ذلك التشخيص.
دراما لعلها كانت تقصد مع رمزيتها كغاية أولى إلى أن النسقية الدرامية بكافة مكوناتها ليست محصورة في جنس بني البشر بل هي فطرة شائعة في جميع مخلوقات الكون.
أما الوظيفة الثانية للحكايات «مصدر توثيق» استطاعت الحكاية قبل اكتشاف الكتابة أن تمثل مصدرًا توثيقيًا ووثائقيًا للإنسان في صراعاته.
ينتج الصراع دوما منتصرين ومهزومين، والمنتصر يُخلّد انتصاره في زمن ما قبل الكتابة بالحكايات التي كانت في ذلك العصر بمثابة طيور الدراما.
وانتقال الحكاية من راوي إلى راوي وتعدد سلسلة الرواة والإسناد وتنوعها كان يوسع أفق الحكاية ويضيف إليها بعض الخيال، وحينا يتجاوز هذا الخيال الواقعية البشرية نحو سحرية يحيطها التشويق والإبهار، لكن هذا التجاوز كان متاحًا وغير معادِ للفكر بسبب طبيعة الاعتقادات الدينية والممارسات الطقوسية للشعوب في ذلك الوقت.
لكن المهم في هذه الوظيفة –تحول خبر الانتصار إلى حكاية- هو تحويلها المقصود إلى «خطاب جماهيري» هذا التحويل هو المبرر لسحرية الخيال الذي كان يحيط بالتوصيف الملحمي للحكاية؛ لإرضاء ذائقية المتلقي وجذبه؛ لأن ثنائية النصر والهزيمة ليست مصدر إثارة جاذب للمتلقي بل إن تفاصيل الصراع ومكونات الأحداث وأنسنتهما هما مصدر الإثارة والجذب.
وعلى جانب آخر فإن ذلك الشيوع لا يمكن إبعاده عن المقصد السياسي للمنتصر، فالحكايات هي بمنزلة دعاية وإعلان مجانية لقوة ذلك المنتصر؛ ولإخافة أعدائه، وتقليم قوة معارضيه.
أما المنهزم فالحكاية بالنسبة له أيضًا ممثلة للعديد من الغايات، فهي توثيق للحق الضائع واستمرار ذاكرته لإعداد نماذج الانتقام.
وفي كلا الحالتين فالحكاية سواء من وجهة نظر المنتصر أو المهزوم هي مصدر تعليمي لأسباب هزيمة الأمم أو انتصاراتها، حتى تحذر الشعوب الأخرى من تكرار أسباب الهزيمة، لكن «الإنسان لا يتعلم من الحكايات» ولذا يسقط في الحفرة ذاتها كل مرة.
قامت نظرية المحاكاة عند أرسطو على الغاية السابقة، وهي أن الحكاية بوصفها دراما تقوم على «تقليد السلوك الإنساني في مستوياته القيمية المختلفة».
وكانت ثنائية الخير والشر هي المحركة لأي سلوك إنساني»، باعتبار أن المرء يقوّم سلوكه ويحمي تجربته المستقبلية من خلال خبرة مشخصّة تقدم له نموذجًا تأثيريا يتعلّم منها.
ومن يقارن بين أفلاطون وأرسطو في نظرية المحاكاة سيلاحظ أن الدراما المبنية على المحاكاة عند أفلاطون ارتبطت بالغاية الأولى للحكاية في بداياتها «تخليق المفاهيم من خلال أنسقة تشخصية» تبلورت من خلالها نظرية المحاكاة، وبذلك فالمحاكاة كبنية درامية عند أفلاطون كانت ذات أبعاد فلسفية.
في حين أن ذات النظرية اختلفت عند أرسطو فقد مالت إلى «الأنسنة» في توظيفها الدرامي، وسعت إلى وجوب تحقيق التطهير النفسي والسلوكي للمتلقي بعد المشاهدة؛ لأنه يرى السلوك المشخّص ويتابع تطوره ونهايته وفق سلسلة المبررات الدرامية التي تحقق للمتلقي نهاية الأمر «العظة والعبرة» «أو ما سمي بعد ذلك نقديًا بالمتعة الفنية».
وهذا التحوّل كانت مناسبًا لتطور الحكاية من الشفهية المفتوحة إلى المسرحة.
والفرق بينهما؛ أن الحكاية الشفهية هو أسلوب حكائي يعتمد على سرد الأحداث كما حدثت؛ أي أن قيمة الخيال لا يشترط تحققها، ولذا ظلت الحكايات الشفهية غير الممسرحة صورة من صورة الواقعة التاريخية.
أما مسرّحة الحكاية فهي من أبدعت دراما الحكاية وأنسنتها، لتنقل الحكاية من سلة التسلية إلى فضاء المعرفة.