1 - أن تُهدهِد الزمن.. أن تمسكه من تلابيبه:
« ولكني أعتقد أن المجتمعات تتكوّن من نوعين من الناس:
أولئك الذين لا يريدون التذكّر.. وأولئك الذين لا يستطيعون النسيان».
د. بوافينتورا
هل يمكن أن تسافر عبر الزمن؟ هل يمكن أن تعود أكثر من مئتي عام إلى الوراء لتتأمل ذاتك القديمة، وصحراءك القصيّة، وأجدادك المتحدّرين في دمائك؟ تلمس بكفّك الحضرية المتأنقة غضون وجوههم المتعبة، وعروق أيديهم النافرة، وتشهد شظف معيشتهم وخشونة أيامهم، وتلمح ظمأ الحلم في عيونهم، وخطوات الزمن الوئيدة فوق رمالهم وكثبانهم، وتصغي إلى حكاياتهم ورنّات رباباتهم، وثغاء ماشيتهم وأطفالهم، وتتنفس -ملء رئتك التي خنقتها المدنية- هواء فلواتهم، وتمضغ -حقيقةً لا مجازاً- التراب الذهبي المتناثر دوماً في أجوائهم.
هذا ما حاول أن يصنعه خليف الغالب في أول أعماله السردية: (عقدة الحدّار: 2019م) الذي يروي فيه حكاية (مطلق) ورفاقه الستة في حدْرتهم، أو قلْ: في رحلتهم المضْنية عبر صحراء الجزيرة نحو حواضر العراق؛ بحثاً عما يسدّ رمقهم، ويؤمّن كفاف المعيشة لهم في بواديهم؛ ولكنّ أحداث القصة ستكشف لنا أن بحثهم الحقيقي لم يكن سوى عن ذواتهم التي أضاعوها في فجوةٍ ما بين الواقع والحلم، بين الطفولة والرجولة، بين البداوة والحضارة، بين ملهاة الغفلة ومأساة الوعي، بين الصبر الذليل على الضيم، والانتقام المنتفِض عليه، بين الحياة الأشبه بالموت، والموت الأشبه بالحياة، باختصار: بين تنهّدات البدوية: (ميثا) اليائسة، وعنفوان ابنها: (مطلق) الذي لا يعرف المستحيل؛ تماماً كاسمه المنفتح على ما وراء الأفق، وكركضِه الجنوني الجامح نحو المجهول؛ حيث «يغسل روحه»، وكغضبه المكظوم الذي كان وحده «يكفي لأن يتذكر كلّ شيء» .
2 -إيقاع السرد:
«كلما اقتربتْ منك الأشياء.. ابتعد جوهرها».
عقدة الحدّار
تتكوّن هذه القصة من مقدمة قصيرة، وثلاثة أبواب، أمّا المقدمة فتأتي أولاً بلسان الكاتب، أو إن شئت: (الراوي المضمَر) الذي يحكي كيفية العثور على مخطوطة القصة في مكتبة مجهولة، وفكرة: العثور على مخطوط أو كتاب مجهول هي حيلة سردية معروفة نجد أشباهها عند عدد من كُتّاب القصة؛ مثل: بورخيس، وإمبرتو إيكو، وإليف شافاق، ويوسف زيدان، وسعود السنعوسي، وتنتقل المقدمة بعد ذلك لتكون بلسان الراوي الخيالي للقصة وصاحب الكتاب المخطوط: (عبداللطيف البصري)، وهو انتقال نهائي؛ إذْ سيستمر صوت (عبداللطيف البصري) -بأسلوب ضمير المتكلم- هو الصوت المسيطر على إيقاع السرد حتى نهاية القصة.
وأمّا الأبواب الثلاثة فيضمّ كلّ باب منها مجموعة من الفصول المرقّمة، وقد حمل الباب الأول عنوان: (يا شاريَ العبد) في إشارة إلى عقدة من عُقَد السرد حين يُضطر (مطلق) إلى بيع نفسه في سوق (المشهد)، بينما حمل الباب الثاني عنوان (الموت ليس سيئاً)، وهو مقتبس من آخر عبارة ترِد في هذا الباب، أمّا الباب الثالث فحمل عنوان (لعيون باميلاّ!) في إيماءة لأحد أوهام (مطلق) الذي كان له أثره المهم في دفع عجلة السرد نحو الأمام. وبين هذه العناوين الثلاثة يبدو عنوان الباب الثاني أبعدها عن أجواء القص؛ لأنه عنوان تقريري أولاً، ثم هو ثانياً عنوان غير سردي، ومخالف لطبيعة عنواني البابين الآخرين اللذين حملا إشارات سردية مشوّقة.
يعود بنا زمن القصّ إلى بدايات القرن الثالث عشر الهجري، وأواخر القرن الثامن عشر الميلادي؛ حيث كان للبداوة والصحراء حضورهما الطاغي في الجزيرة العربية، قبل أن يتقلص هذا الحضور إلى حد بعيد مع تمدّد المدنية المعاصرة، وتوسع مظاهرها في أرجاء الجزيرة، والغريب أن الراوي البصري للقصة يحدد السنة التي كتب فيها هذا المخطوط المفترَض، فيجعلها سنة 1213هـ/1798م، وهي السنة نفسها التي احتلّ فيها نابليون مصر، وتغيّر بعدها وجه المنطقة العربية، والراوي لا يشير إلى هذا الحدث التاريخي؛ ولكنّ القارئ لن يستبعد ما يحمله هذا التوافق من إسقاطات ثقافية محتملة .
علاقة الراوي (عبداللطيف البصري) ببطل القصة (مطلق) تبدو وكأنها علاقة شعرية، فهو يصِف شخصيته ويتحدث عن أخباره بقدْر غير قليل من التعلّق والدهشة والإكبار، وربما يذكّرك في مواضع متفرقة من السرد بأسلوب محمود المسعدي المغتسِل بالصياغة التراثية الأنيقة وهو يصِف بطل قصته الخارق بتلك الأوصاف الخيالية المحلِّقة، أو حين يروي عنه عباراته الشعرية البليغة، وحِكَمه الإنسانية العميقة، وذلك في سرديته العجائبية: (حدّث أبو هريرة قال)، وهاتان السِمتان (المسعديتان): اللغة الشعرية المتأنّقة، والحِكَم الإنسانية المترادفة هما أيضاً سمتان طاغيتان في (عقدة الحدّار)، تأمّلْ مثلاً هذه العبارات: «كوجهِ نبيٍّ لم يؤمن به أحد... إنها كسائر الأمهات حين ينشغل قلبها تنشغل يدها... ثم ابتسمتْ ابتسامةً قديمة كأنها ليست منها... يجب أن نعضّ الدنيا كما تعضّنا، أن نغرس في كبِد الحياة حربة البدويّ الغاضب... لو خلق الله رجلاً من زجاج لكان ناصر... الغرباء يملكون أحزاناً أنيقة... حينما أراد الإنسان أن يكون عبداً: اخترع المدينة... للنخل قبل الغروب لون آخر، لون يُشبه ذواتنا من الداخل».
كما تذكّرك صياغة الراوي الشعرية في مواضع أخرى بمخاطبات النفّري ومواقفه، حين يروي مثلاً بعض تجليات (مطلق)، فيقول: «وقال لي: ليتني كنتُ بعيراً نِصفُ معيشتي: أن أمشي، وقال لي: ليتني ما تعلّمتُ القراءة، أشعر بأنّ نفسي تلاشت ونبتَ مكانها نفس أخرى لا أعرفها، وقال لي: كلّما قرأتُ شيئاً جديداً من أوراقك هذه أشعر بروحي تفسُد»، فهذا التكرار الإيقاعي لعبارة (وقال لي) هو تكرار نفّريّ بامتياز .
أمّا ما يتعلق بالإطار العام للسرد والحبكة القصصية فإذا استثنينا بعض المآخذ الفنية التي ستفصّل الفقرة الأخيرة من هذا المقال الحديث عنها؛ فإن الانطباع الملحمي القوي الذي تخلّفه هذه القصة في نفس القارئ يُنبئ عن تمكّن واعد من أدوات القص والتخييل عند هذا الروائي الشاب، فهو يمتلك على الأقل ثلاثة مفاتيح أساسية للمضيّ قُدُماً في عالم السرد، وأولها: القدرة العالية على تشويق القارئ وشدّ انتباهه؛ عبر البنية القصصية المتماسكة، ومن خلال ابتكار ثيمات قصصية قادرة على مدّ خيوط السرد، ودفع القارئ إلى التساؤل الدائم عن دلالاتها ونهاياتها، ومن هذه الثيمات القصصية الجاذبة: عقدة شال (مطلق) التي ظلتْ تنوسُ أمام عينيه طوال الرحلة؛ مذكّرةً القارئ كلّ مرة بالخيط الأساسي للقصة، والاحتمالات المتكافئة لبقائه أو انقطاعه، ثم رائحة الدم التي كان (مطلق) يشمّها وحده، واستمرت تُعاوده وتستثير حواسه عبر مفاصل الحكاية، وآخر هذه الثيمات الجاذبة: خيوط الثأر المتكشّفة ببطء، والمتسلسلة من سعدون المسعد حتى ابنه: حازم السعدون .
والمفتاح الروائي الثاني هو: هذا التصوير الدقيق لمسرح الأحداث، فعلى امتداد القصة هناك تجسيد بصري وجغرافي حاذق للصحراء من جهة؛ بوديانها وهضابها ومسالكها المتعثّرة، ولمدن العراق: النجف، والحِلّة، وبغداد من جهة أخرى؛ بأسواقها، وسِكَكها، ودُورها، وناسها، وكلّ هذا ينمّ عن دراسة دقيقة لفضاء السرد، وكأنما سافر الروائي بنفسه إليها، أو لعله استعان بكثير من كتب الرحّالة المعنيّة بمثل هذا التوصيف الدقيق للأمكنة، ولم يكن مصادفةً أن تُصدَّر القصة بنص مقتبس من أحد الرحّالة البولنديين، وهو: فاتسواف جفوسكي صاحب كتاب (انطباعات عن الشرق وشبه الجزيرة العربية).
أمّا المفتاح السردي الثالث الذي يمتلكه كاتب القصة فهو: لغة عرض مصقولة ومتدفقة، ومستنِدة إلى مخزون معرفي تعالِج من خلاله أدقَّ الأفكار وأجرأها، كما تشفّ كذلك عن درايةٍ بالثقافة البدوية المحلية؛ بأعرافها، وتسمياتها، وروحها التعبيرية الخاصة؛ وإنْ لم تخلُ هذه اللغة المتميزة من بعض العثرات في أسلوب العرض والتعبير؛ كما سيأتي لاحقاً، وكذلك من بعض الهَنات اللغوية النادرة.
3 -وحشة اللغة.. أُنس الرموز:
«وفي الليل.. كان يغمرنا الطلّ، وكم من مرة اعترانا الخجل وشعرنا بأننا لا شيء يُذكَر أمام هذا السكون الرهيب الذي تفرضه النجوم المتلألئة».
لورنس: أعمدة الحكمة السبعة
«الذي يصمت طويلاً تتكلم أفعاله».. هكذا قالت خالة (عبداللطيف البصري) -راوي القصة- محذّرةً ابن أختها من هذا الـ(مطلق) الصموت، عادةً نحتاج إلى الكلام حينما نريد أن ننفّس عن مشاعرنا؛ ولكنّ من يريد بقاء هذه المشاعر حيةً متوقدة داخله فهو أبعد ما يكون عن الحاجة إلى الكلام، يكفيه فقط التعلُّق ببعض الرموز الملهِمة التي لا يفهمها سواه: العُقدة التي ربطتْ بها والدته الطرف الأيمن لشالِه حين ودّعتْه، وأقسمتْ عليه أن لا يحلّها أحد سواها؛ ليتذكّر طوال غيبته كلما تأمل هذه العقدة أنّ صاحبتها ما تزال هناك بانتظاره، ورائحة الدم التي ظلّ -وحده- يشمّها في أنفه على امتداد رحلته؛ محرِّضةً إياه على الانتقام لوالده، وأخيراً: باميلاّ.. الفتاة الخيالية المنتهَكة التي كان الحقد بحاجة إلى وجودها المفترض؛ لتؤكد تجذُّر الشر في نفس الجاني، واستحقاقه للعقاب (الكوني) العادل.
يستوحش البدوي الغريب من لغة الناس في الحاضرة، ويعجز عن التعبير بها عن مكنوناته؛ لأنّ «الغربة تفتّت حبّات الروح وتطحنها»، والغربة الأقسى ليست غربة المكان، بل «الغربة: غربة اللسان حقاً»؛ كما يقول (عبداللطيف البصري)؛ أي غربة الإحساس بالأشياء، وطريقة التعبير عنها، يقول جون لويس بيركهارت في كتابه (رحلات إلى شبه الجزيرة العربية): «لكنّ حاجات البدوي وعاداته تختلف إلى حد بعيد عن تلك الخاصة بأحد أبناء المدينة، إذْ إنّ أحدهم لا يستطيع العثور على العبارات التي تعبّر عن أفكار الآخر» .
من هنا يلمس هذا البدوي القادم من الصحراء مصابيح الحضارة بأطراف أصابعه؛ متوجّساً من بريقها، خائفاً من احتراقه بلهبها، مشفقاً -إلى حدّ الجزع- على براءته وبقايا كرامته من رعونة المدنيّة، وسحقها للفرادة لصالح انتظام الجموع.
هكذا تشيع مادة (الخوف) في القصة بقدْر لافت جداً، وتتحول رجفة الخشية إلى شجنٍ مرتّل.. إلى شيءٍ يُشبه العاطفة الدينية، لنتأمّلْ هذا الحقل الدلالي المعجون بالخوف على امتداد صفحات القصة: «إنه خائف منذ مئات السنين... سأبدأ بسرد الحكاية، أنا خائف الآن... مات مِيتةً مخيفة... وابتسم مطلق ابتسامةً ممزوجةً بالخوف... لكني أخاف الموت في الظلمة... له ذاكرة مخيفة... المخيف أكثر أنه يرى أشياء لا أراها... رجلاه تتعاقبان بخِفّة مخيفة... وامتلأ قلبي بالخوف... وخِفتُ عليها... يريد أن يُخيف به الصغار... هذا الذي يُخيف الناس ويبطش بهم... أريد منه حمايتي من هذا المنظر المخيف».
وهنا تختلط الأمور على القارئ، فلا يعلم مصدر هذا الهاجس المسيطر: أهو تسلسل الأحداث الغادرة في القصة، أم هي لغة الراوي البصري الذي لا يستطيع بحكم التكوين إلاّ أن يعزف على (المقام) العراقي الميال دائماً إلى الشجن، أم هو بعض ما يفيض من كأس المرارة في المستقر الأخير للسرد. ومن الغريب حقاً أن تشيع هذه الروح المستسلمة في قصة كفاحٍ وثأر، وكأنّ اللغة الموحِشة تأبى إلاّ أن تظهر، وأن تُقاوم الغرق الإبداعي؛ ملوّحةً بكلتا يديها بين أمواج الترميز السردي البعيد؛ خاصةً إذا أضفتَ إليها بعض الإسقاطات المضمَّنة داخل الأحداث؛ كموقف البغداديين من سليمان باشا، وأحاديث (الشيخ فارس) أمام الراوي، ومشهد تحرير (مطلق) من الأسر.
4 -أسوار الاحتراس:
«لو انطلق هذا الخيال الشرقي المكبوت
الذي تنفّس بألف ليلة وليلة، لعانق النيّرين».
اميل حبيبي: الوقائع الغريبة...
منذ الصفحات الأولى من القصة تصافحنا الاحتراسات (الأكاديمية) الحذِرة في لغة السرد، فالناقد المختبئ خلف ريشة القص حريص جداً على تسديد كل الثغرات (المنطقية) التي يمكن أن يتسلل منها المعترضون ذوو النكهة الأكاديمية الثقيلة، هكذا يكرر الراوي البصري في تقديمه للقصة، وفي مواضع متفرقة منها، وبإلحاحٍ لافت أن قصته مزيج من الواقع والخيال، وأنها «حكاية حدثتْ في الواقع مرة، ثم حدثتْ في ذهني مراتٍ كثيرة»، وأن «الخيال قد عدا على ذهني، فأفسد من هذه القصة وأصلح، وزاد ونقص، وعدّل وبدّل، حتى صار الواقع خيالاً»، وكلّ هذا استباقٌ نقدي يُضعف إلى حد بعيد من أثر تصديق الراوي لما يرويه، وهو أحد العوامل المهمة في بناء الإيهام القصصي لدى القارئ، وقوة اندماجه في عوالم السرد.
وسيتعثّر القارئ مِراراً بتلك المسافة المحترِسة التي يضعها الراوي دائماً بين قلمه وبين أحداث القصة، فالراوي -وهذه مفارقة- غير مقتنع تماماً بأسلوب (الراوي العليم) في السرد الذي يستطيع أن يتسلل إلى نفوس أبطاله، وأن يتحدث بلسانهم، وأن يكشف أمام القارئ عن خواطرهم ومكنونات ضمائرهم؛ ولهذا كان بحاجة إلى هذه المرافعة الاحتجاجية المطوّلة: «أعلمُ أني سأدخل في نفس (مطلق)، وفي نفوس الآخرين، ستجدني أقول: كان يشعر بكذا، ويحسّ بكذا.. سأتحدث بألسنتهم، أضع ذاتي مكان ذواتهم، وستراني أتسوّر الجدران، وأدخل بك القصور والسجون والغُرف، نعم، أنا لا أعلم ما في الصدور، ولا أرى ما وراء الجدران، لا أعلم الغيب.. لكني أشعر به، أتخيّله، أحسّه، ألمسه، أقبض عليه، في خيالي على الأقل».
ولم يكتفِ الراوي بهذه المرافعة الاستهلالية، بل راح على امتداد رحلة السرد يرفع أصبعه الاحتراسي المرة تلو الأخرى أمام عين القارئ؛ ليذكّره بأنه لا يعلم حقيقةً ماذا حدث بالفعل، وأنه إنما يتخيل الأحداث فقط، وهذه بعض الأمثلة: «عاد (مطلق) يحدّث نفسه بعد أن نام الجميع، أو هكذا تصورتُه... كان يحدّث نفسه، أو هكذا تصورت... لذلك رأيتُه يتحدث مع نفسه، رأيتُه في رأسي... لذلك لم يكن صعباً على خيالي أن يراه... هل قال (مطلق) هذا الكلام بنصّه أم أني أتخيّل هذا؟... تصورتُها مراراً محتارةً في قصرها». والتعاقد التخييلي بين راوي القصة وقارئها يُغني عن كل هذا التدقيق المفاهيمي والتحقيق الأكاديمي، وربما ما دفع الكاتب إلى هذا الحذر هو أن القصة محكيّة على لسان (عبداللطيف البصري) الذي ينتمي لعصر قديم لم تكن الأعراف الروائية شائعةً فيه، وهو افتراض غير دقيق أيضاً؛ لأن التراث مكتنز بالأعمال السردية التخييلية.
ومما يؤكد تغلغل هذه الروح الاحتراسية في القصة: ذلك الحرص الواضح على تفسير كل ما يمكن أن يحتمل الغموض من أسماء أو أعراف، كتفسيره لمعاني أسماء: (خضرا) و(حدرة)، و(المتاييه)، وكذلك معاني الأسماء التي يُطلقها البدو على مراتب المطر. ويمتدّ هذا الحرص التوضيحي حتى إلى سرد الأحداث ورسم المشاهد، فالمشهد الفانتازي الذي ظهرتْ فيه (ميثا) فجأةً أمام ابنها (مطلق) وسط الصحراء البعيدة؛ لتقدّم له وصاياها المؤثرة يُنهيه الكاتب بقوله: «أفاق من غفوته على صوت الجماعة»، وهكذا بدّد حضوراً عجائبياً وغموضاً ثميناً من الناحية الفنية. وحين راح الراوي البصري يصِف نفسه في عين (مطلق) عندما رآه لأول مرة، فإذا هو: «رجل في منتصف العمر، له عارضان أسودان خفيفان، وعينان زرقاوان، يبتسم»، لم يهنأ بهذا الوصف المحايد حتى أردفه بتفسيره: «أنا كنتُ أبتسم له».
كذلك كان الراوي حريصاً على أن يسدّ ثغرةً (أكاديمية) أخرى ربما ينفذ منها الناقدون، وهي: التفاوت الواضح بين الأسلوب العصري الذي صِيغت به القصة، والأسلوب التراثي المفترَض الذي يمكن تصوُّر أعرافه الأسلوبية المخالفة لدى كاتب عاش قبل أكثر من مئتي عام؛ ولهذا قال الراوي البصري في تقديمه للقصة: «أكتبُ مخالفاً أعرافَ أهلي وطرائق زماني، أريد أن أقول شيئاً عميقاً... ربما كنتُ أكتبُ للآخرين، للذين لم يأتوا بعد، للذين لا يُغريهم السجع والجناس».
نعم، صحيح أن هناك مواضع متعددة في القصة تظهر فيها لغة السرد مغرقةً في الحداثة، ويبدو أسلوب التعبير فيها معاصراً جداً، وغير متوائم مع الأعراف الكتابية والثقافية لزمن الراوي البصري، كما أن هناك مواضع تجلّى فيها الراوي فكرياً، فقدّم مثلاً نظرات فلسفية عن مائيّة الإنسان وطبيعته السائلة، وتأمّلاً عميقاً في علاقة الإنسان الجدلية بالصحراء والمدينة، ورؤى وجودية في التداخل الملتبِس بين الموت والحياة؛ ولكنّ هذه مفارقات أسلوبية وسردية ستبقى وستُلاحظ، ولن تحلّ إشكالها التنبيهاتُ الاحترازية التي شغلتْ نصف مقدمة الراوي البصري لقصته. في الواقع كنتُ أتمنى وأنا أقرأ هذه المقدمة الحذِرة أن أغمس أصابعها من جانب بجنوح (الواقعية السحرية) في (ألف ليلة وليلة)، وأعمال: كافكا، وماركيز، وإيزابيل اللندي، وأن أدغدغ أعصابها المشدودة من جانب آخر ببساطة السرد العميق عند نجيب محفوظ الذي يبدو عفوياً جداً، وغير عابئ بالتفسير.
تبقى ملحوظة أخيرة، وهي: المبالغة العاطفية في بعض مواضع القص؛ مثل: المشهد الذي يصف ردة فعل (مطلق) على الألفاظ النابية التي أطلقها حازم السعدون عليه، وكذلك: المشهد الذي يصوِّر لقاء (مطلق) بخاتون خانم. وتزداد غرابة المشهد الثاني على الأخص حين نستحضر الصورة النمطية التي رسمها السرد عن شخصية (مطلق) المتحفّظ والمتوجّس والكَتوم.
أقول أخيراً: إنّ هذا العمل السردي يُنبئ عن موهبة قصصية لا يمكن إنكارها، وبصرف النظر عن كلّ هذه الملحوظات النقدية المتحذلقة؛ فإنّ الذكرى الأهمّ التي أظن أني سأحتفظ بها لوقت طويل عن هذا العمل هي: ذلك الشغف الطفولي الذي استولى عليّ وأنا أتتبّع سطوره وأترقّب أحداثه، وما سوى هذا الشغف: مجرد تفاصيل.
** **
- د. سامي العجلان