عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي:
ربما كان هذا العنوان لرواية محمد عبد الله بن دايل (روح جميلة) الصادرة حديثًا للعام الحالي عنوانًا عادياً غير لافت لنظر عامة القراء, خاصة أولئك القراء الذين يولون العناوين والمسميات اهتمامًا كبيرًا, وبغض النظر عن المحتوى, أو (ما وراء العناوين والأغلفة) من مضامين قد لا تعكس بالضرورة ما تحتويه, أو تعبّر عما تعنيه تمامًا!
ولكن القارئ الفطن والمتمكن يدرك أثناء تمعنه في هذا المسمى, وبمجرد قراءته الأسطر الأولى من الرواية، أنه عنوان جميل، وله دلالة لغوية و(بديعية) واضحة في التعبير عن هذا العمل السردي ومحتواه, وهو ما يعني انطباق (الاسم) على (المسمى).
وأعتقد أن الكاتب قد اعتمد في صياغة هذا المسمى البسيط والتلقائي لروايته على ما يعرف في علم البديع بـ (التورية)! وهي - ببساطة - الإتيان بكلمتين متطابقتين تمامًا - كتابة ونطقًا - إحداهما لها معنى ظاهر وهو غير المقصود, والآخر باطن بعيد، وهو المقصود, بحيث يكتشف القارئ أو السامع حين يدقق بهما أن لكل منهما معنى مختلفًا, بعد أن كان يظن أن لهما معنى واحدًا!
فكلمة (جميلة) هنا ليست صفة لكلمة (روح) التي سبقتها, وإنما هي مضافة إليها, وهي اسم علم لبطلة هذه الرواية, وفي كلتا الحالتين المسمى جميل, سواء قصد به المؤلف المعنى الأول (وصف الروح بالجمال) أو قصد به المعنى الثاني (إضافة الروح للاسم/ جميلة)، على الرغم من أن المقصود به المعنى الثاني (وهو الأجمل)، وليس المعنى الأول. كما أنه ليس من السهولة مباشرة التفريق بين المعنيين إلا باستخدام وضع (التشكيل) على الكلمات أو الحروف المكونة للعنوان من ضم وكسر ونصب وسكون وتنوين, أو بالنظر إلى موقع كل كلمة من (السياق العام للكلام). وأعتقد أن الكاتب قد تعمد هنا عدم تشكيل العنوان بالحركات؛ كي يترك للقراء التحليق مع المقصود من هذا العنوان المرسل لروايته!...
عمومًا.. لا يهمنا العناوين كثيرًا، وإن كانت من المسائل التي أولاها كثير من الأدباء والمثقفين وبعض النقاد أهمية كبيرة, قد لا تستحقها, خاصة نقاد العصر الحديث أو الراهن, كما عرف عنهم قولهم «الكتاب من عنوانه».
وإنما الأكثر أهمية بالنسبة للجميع هو المحتوى الذي لا نختلف عليه من حيث الجودة من عدمها, حتى لو اختلفنا حول العناوين والمسميات, ومهما كانت درجات خلافنا حولها!
ولنلج بعد هذه المقدمة الموجزة إلى عمق الرواية, التي تعتبر الإصدار الروائي الثاني لابن دايل, وذلك بعد صدور روايته الأولى الموسومة بـ (لوحة سليمان) قبل بضع سنوات مضت!
ففي هذا العمل يحاول الكاتب أن ينتهج أسلوب (أدب الخيال العلمي)، وتوظيف الشخوص الروائية وزمانها ومكانها وبيئتها توظيفًا علميًّا، يناقش من خلاله بعض الحقائق والفرضيات والنظريات العلمية, سواء ما كان منها في علوم المادة, والعلوم التطبيقية, أو العلوم النظرية, كالطب والفيزياء والكيمياء والأحياء من نبات وحيوان، والعلوم الإنسانية الأخرى ذات العلاقة, كعلم النفس والاجتماع والقانون وغيرها. وقد قام الكاتب بمعالجة مثل هذه الحقائق والفرضيات معالجة منطقية، لا تتصادم مع العلم, ولكنها تحاول مسايرته, بما لا يتعارض مع الحقائق العلمية الراسخة, ووجود الأشياء وكنهها وكينونتها.
ولذلك اتسمت لغة الكاتب وأسلوبه هنا بما يعرف بـ (الأسلوب العلمي المتأدب)، وهو إحدى أبرز سمات (أدب الخيال العلمي) كما سبقت الإشارة إليه. ولعل من أهم خصائص هذا النوع من الأدب أيضًا مرونته الواسعة في التفكر، والتأمل في الحياة والكون والمخلوقات, وخلق شخصيات قادرة على التشكل في صور وهيئات غريبة وخارقة للعادة, قد تبلغ درجة الخيال الفج - أحيانًا - وإيجاد أو لنقل: تهيئة أزمنة وأماكن تليق بهذه المخلوقات, وهي عادة ما تكون أزمنة وأمكنة (وهمية) قادرة على استيعاب هذه الشخصيات الخارقة العجيبة, وأدوارها في الحدث السردي وبنائه وتطوره, بحيث لا يشترط موافقتها للواقع.
ويتمثل لنا ذلك - باختصار شديد - في الشخصيتين الرئيستين في هذا العمل, ألا وهما (الفتى أو الصبي المدعو: عالم, البالغ من العمر 16 سنة, وصاحبته، تلك الفتاة, المعروفة باسم جميلة, البالغة من العمر 14 سنة, التي حملت الرواية اسمها).
وتبدأ القصة في (بريطانيا) حيث تقيم عائلتا (عالم وجميلة)، ويعمل أفرادها هناك. ومن هنا تتكون علاقة حب طفولية بريئة بين الصبي/ عالم, والصبية/ جميلة ناتجة من بعض اللقاءات العابرة بينهما بحكم علاقة العائلتين ببعضهما كجيران.
بعد ذلك يحدث أن تسير جميلة - ذات يوم - إلى جانب أمها في أحد الشوارع, وكانت المفاجأة الفظيعة أن تتعرض هذه الفتاة إلى عملية دهس شنيعة من قِبل إحدى الشاحنات العابرة لدى محاولتها عبور الشارع بالخطأ. وكان لهذا الحادث المؤلم جدًّا, الذي وقع على مرأى من الأم التي شاهدت ابنتها وقد تقطع جسمها إلى أشلاء تحت عجلات تلك الشاحنة، أثرٌ سيئ للغاية, خلّف صدمة نفسية عنيفة مباشرة في نفس الأم.
وكذلك كان وقع هذا الحادث المريع شنيعًا على نفسية صاحبها (عالم) الذي تحسر كثيرًا على فقد (جميلة) بمجرد علمه بموتها على النحو المؤلم المفاجئ, حتى اسودت الدنيا في عينيه, وأصابته انتكاسة نفسية مؤلمة!
وعند هذا الحد المتوتر من تأزم الحدث السردي وتصاعده, ومع مرور الأيام يكبر الفتى (عالم)، ويلتحق بعد سنتين من وفاة (جميلة) بإحدى الجامعات البريطانية؛ ليتخصص في (علم الفيزياء)، ويُظهر تفوقًا بارعًا في هذا المجال, ويبهر أساتذته وزملاءه بدراسته علم الفيزياء، وتمكُّنه منه تمكُّنًا تامًّا؛ جعله في مصاف أبرز علماء عصره الفيزيائيين؛ لما قدمه فيه من إنجازات علمية فائقة, ومناقشات جديدة لبعض المسائل والنظريات الفيزيائية, وتوضيح ما غمض من بعض جوانبها, أو إضافة جديد لها؛ وهذا ما شجعه على أن يضاعف جهوده لمواصلة أبحاثه ودراسته العليا في الجامعة نفسها, حتى قاده ذلك إلى اختراع جهاز فيزيائي عجيب, مزود بإشعاع (كهرومغناطيسي) قوي, يمكنه البحث عن الأرواح بعد أن تغادر الأجساد, وأماكن وجودها, واستفاد من هذا الاختراع التقني المتطور جدًّا، وفكر في استغلاله للبحث عن (روح جميلة) بعد أن غادرت جسدها, وأين يمكن أن يجدها؟ وقد استغرق ذلك منه وقتًا طويلاً لسنوات عدة, وكلفه مجهودًا مضنيًا!
ومن هنا, وعند هذه النقطة، تبدأ مهارة الكاتب في استخدام تقنيات قص الخيال العلمي, وتفننه في معالجتها, خاصة أنه مسلم, يطيب له أن يتدبر ما ورد في القرآن الكريم عن الروح وذكرها وماهيتها {ويسألونك عن الروح..}، وعلاقة مثل هذه المسائل بتخصصه بوصفه فيزيائيًّا, وبما لا يتعارض مع الدين الإسلامي في شيء!
ومن هنا أيضًا يُظهر الكاتب مقدرة فائقة, بناء على ما يمتلكه من معرفة واسعة حول «الروح»، وما ورد عنها في القرآن الكريم والسنة النبوية, وكيف فسَّرها علماء الإسلام وفقهاؤه, وما يقابل هذا التفسير من تفسيرات أخرى مغايرة لفلاسفة الشعوب الأخرى وعلمائهم ورجال الدين منهم, كاليهود والنصارى والبوذيين والهندوس وغيرهم.
وقبيل اختتام حديثي عن هذا العمل - رغم إحساسي بأن الحديث عنه لا ينتهي بسهولة فيما لو فكرت في شرح تفاصيله - فإن أقل ما يمكن أن أقوله عنه أنه عمل جيد, امتاز بالجدة والطرافة, والخيال العلمي الواسع, والجرأة في طرح أفكار جديدة, ومعالجتها بمرونة عالية, تفتح آفاقًا شاسعة لا حدود لها من التفكر والتدبر والتأمل في الكون والمخلوقات.