نوف بنت عبدالله الحسين
في اليوم الأول الذي رأيناها أنا وزميلاتي، شدّت مشاعرنا ولفتت انتباهنا نحوها، المحاضرة الأولى كانت هي البداية، لم تكن شخصية سهلة بالتأكيد، لكنها متواضعة أكثر من اللازم، لم تكن تعلّمنا بروح المعلم، بل بروح الأمومة التي تقسو علينا حين نقصّر، وتفرح بنا حين نقوم بفعل جيّد..
كانت حقاً فريدة، تجعلنا نتعلّم من أجل أن نستفيد لا من أجل ورقة الاختبارت، تفتتح محاضرتها بـ(في حتوتة صغيرة حأحكيها لكم) لتصبح هذه (الحتّوتة) أعظم مقدمة علمية تدخل بنا في أعماق المعرفة، لم تريحنا في محاضرتها أبداً، فقد كانت محاضرتها تؤرقنا أسبوعاً كاملاً، لأن نقرأ ونستعد قبل أن تبدأ، ونجد أنفسنا مع ذلك لم نفعل شيئاً سوى الاستعداد والتهيؤ الذهني، تجبرنا على المشاركة معها في إعداد المحاضرة، وتجعلنا نشارك في النقاش والحوار، كنا نشتاق لمحاضرتها ونستمتع بتفاصيل ما يحدث بها من حوار ونقاش وعرض وعلم وأفكار.
كنّا نضحك كثيراً في محاضرتها من تعليقاتها، خفيفة الظل في طريقة طرحها، مليئة بالمعرفة، حريصة على أن نتعلّم كما يجب، لا كما يتوجب، تنطق الراء بطريقة مميزة ومبهرة، لدرجة أنك تتمنى أن تكون كل كلمة تمر في إذنك تحتوي حرف الراء الفريدة التي تنطقها بشكل ملفت وجميل، ومع كل هذا اللطف الذي تحمله، إلا أن لها هيبة العلماء التي تجعلنا نطئطئ رؤوسنا حين حضورها، ونفرح به في ذات الوقت، ولطالما تساءلت في ذاتي، كيف تحقق هذه المسألة؟ تحقق تحصل على هذ التوازن العجيب ما بين اللطف والهيبة؟
درست معها عاماً جعلتني أغير فيها من طريقة تفكيري ونظرتي للأمور، أن أتعلّم منها كيف أرى الأمور من ميزان مختلف، أن أرتقي بأفكاري وأبحث دوماً عن المعرفة، تعلّمت منها كيف أنه لا بد من أن أطرح فكرتي ورأيي بالحجج والبراهين وأن لا أجعل العاطفة هي المتحكمة بالموقف بل أن لا يكون الخطاب عاطفياً بل مدعمًا بقالب العلم وأن يكون النظري صورة حقيقية عن التطبيقي.
كانت أجمل المحاضرات تلك التي تأتي بعد رحلة للعمرة لها، فكم من مرة تأتي للمحاضرة وتخبرنا بأنها بالأمس كانت في عمرة لبيت الله الحرام، ونغبطها على ذلك وقد اكتسبت تلك الهالة من أثر العمرة رغم التعب، إلا أنها تتألق بشكل أكثر جمالاً وروعة.
أحببت تفاصيلها، طريقتها وهي تتحدث، هندامها الذي يعطي انطباعاً مريحاً تجاهاها، أحببت تعابير وجهها، إيماءاتها، تعليقاتها المضحكة، وقبل ذلك روحها الطيّبة.
لا أخفي تأثري بها، وكل من يعرفني يعرف مدى تأثري بها، أحكي لبناتي عنها ولزوجي ولأمي وإخوتي، هي حقاً شخصية مؤثرة تقتحمك دون أن تعلم، لكنه اقتحام محبب للنفس.
حين أهديتها روايتي (طنين)، قرأتها في يوم واحد، ومن ثم أرسلت لي رسالة صوتية تخبرني فيها بأنها قرأتها وتشجعني على الاستمرار في الكتابة، وأعتذر حقاً بأني تسببت في دموعها حين قرأت الرواية، لكنني حتماً سعيدة لأنها اقتطعت من وقتها المزدحم وقتاً لتقرأ كتابي المتواضع الذي لا يمثّل شيئًا من عمق المعرفة والعلم الذي تمتلكه هذه السيّدة، لكنها في المقابل قرأته لتعطيني درساً آخر، هو أن المعلم محفّز لطالبه في أي مجال إبداعي ومشجع له.
حاولنا مراراً وتكراراً أن نثنيها عن قرار المغادرة، كل ما كنا نتمناه عامًا آخر فقط إلى أن نناقش الرسالة، ثم نسمح لها بالمغادرة، وكأننا سمحنا لأنفسنا بأن تكون لنا ملكنا، كانت تضحك وتقول لنا، (أنتم عوّضتوني عن ولادي).
غادرت لكنها خطفت قلوبنا، وذهبت تاركة فراغاً لا يمكن أن يكون هناك من يعوّضه بعدها، هي لا تشبه أحدًا إلا نفسها، صاحبة المبادئ والقيم التي تحثّنا دوماً على أن نتمسّك بها ونعمل بها، غادرت بعد أن بذرت في قلوبنا محبة لها وسقتها ورعتها وأصبحت باسقة وستؤتي ثمارها كل حين.
أستاذتي، أ.د. سهير حوالة، حفظكِ ربي وجعلكِ مباركة أينما كنتِ.