منصور ماجد الذيابي
يعتقد المتابعون للشأن التركي أن تركيا تعد إحدى الدول التي تنتهج منذ أمد بعيد سياسة النأي بالنفس عن التدخل في شؤون الدول الأخرى في المنطقة العربية والآسيوية، غير أن الأحداث والمستجدات الراهنة أثبتت أن هذا الاعتقاد الذي كان سائدًا لعقود طويلة لم يكن صحيحًا على الإطلاق.
وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان «الاستثمار الأجنبي في مناطق الصراع» فإن الدولة التركية تسير على خطى جارتها إيران فيما يتعلق بسياسة التدخل والتغلغل في شؤون الدول الأخرى من خلال فرض الوجود العسكري المباشر أو من خلال السعي لإيجاد أذرع لها في المنطقة كما فعلت إيران من قبل في كل من العراق واليمن وسوريا وغيرها.
أعلم كذلك وأنتم تعلمون أن تركيا تحاول أن تستفيد من كل الظروف والأزمات التي تمر بها المنطقة العربية لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية في آن واحد.
وفي سبيل ذلك تسعى تركيا من حين إلى حين إلى دغدغة مشاعر المسلمين من خلال إطلاق بالونات إعلامية هدفها تضليل الرأي الإسلامي لأجل لفت الانتباه إلى أن الدولة التركية تضع حقوق الشعوب الإسلامية في سلم أولوياتها السياسية. ومن ذلك ما سمعنا به من بيانات تصدر عن أعلى المستويات في الدولة مثلما جاء على لسان الرئيس التركي إبان الهجوم الدامي على المصلين في مسجدي النور ولينوود في مدينة كرايست تشيرش بنيوزيلندا، عندما قال: إن تركيا ستحاسب منفذ الهجوم إن لم تحاسبه الحكومة النيوزلندية.
نتساءل الآن أين تلك المحاسبة إن لم يكن الهدف من التصريح هو كسب تعاطف الشعوب الإسلامية مع الدولة التي ساد الاعتقاد بحرصها الشديد على قضايا الأمة الإسلامية والدفاع عنها ضد الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون في كل بقاع العالم! كما نتساءل لماذا تتأخر محاسبة المتهمين بمضايقة السياح السعوديين في تركيا؟، ولماذا لم تكشف السلطات التركية حتى هذه اللحظة عن حقائق مصرع المقيم الفلسطيني زكي مبارك في مقر اعتقاله في أنقرة؟، ولماذا تماطل السلطات بنتائج تشريح الجثمان ان كانت حقًا تحترم حقوق الإنسان؟
وعمومًا فإنني لن أتساءل هنا عن ذلك الاهتمام التركي الشديد لتدويل قضية الكاتب السعودي جمال خاشقجي رحمه الله، وسعيها الحثيث لإيصال القضية لمجلس الأمن الدولي ضد دولة إسلامية عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي. فالعالم يدرك تمامًا أن تركيا لا تهتم بقضايا المسلمين والدفاع عن الدول الإسلامية بقدر اهتمامها بالمصالح التركية مع أوروبا وروسيا. لم يعد القناع الإسلامي للسياسة التركية يحظى بمصداقية كبيرة في الشارع الإسلامي حتى وإن تراءى لبعض الواهمين حرص تركيا على احترام حقوق الإنسان في الوقت الذي تشير فيه بعض تقارير المنظمات الحقوقية إلى محاولة الدولة التركية ترميم سجل حقوق الإنسان هناك.
إن كل المواقف التركية المعلنة من الناحية النظرية تسر المسلمين وتجعل من تركيا في نظر الآخرين دولة حريصة على مصالح المسلمين في كل مكان، ولكن عندما نبحث أو نتساءل عن سبب عدم تطبيق هذه النظريات والمواقف السياسية، فإننا نتفاجأ بأن تلك الوعود والتصريحات والشعارات الرنانة ليست إلا من أجل الاستثمار عسكريًا داخل حدود الدول الإسلامية ذاتها، كما حدث من تدخل عسكري في قطر والسودان وسوريا تحت غطاء اتفاقية حماية النظام القطري، وملاحقة عناصر وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، وبذريعة التعاون الاقتصادي للاستثمار في جزيرة سواكن استغلالاً لحاجة السودان الفقير إلى المال التركي لدعم الاقتصاد.
ونعلم أيضاً أن الاهتمام التركي بقضية خاشقجي لم يكن ليحدث بتلك الإجراءات المكثفة والخطوات المتسارعة والبيانات المتضاربة لولا رغبة تركيا في الاستفادة من هذا الحدث على حساب علاقاتها مع دولة إسلامية كبرى لأجل أن تقوم فقط بتلميع صورتها العثمانية بما يسهم في تحقيق مطالبها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. نعلم أن هذه المناورات السياسة التركية إنما تأتي في إطار بحث أنقرة عن الاستثمار سياسيًا وعسكريًا في أي قضية أو توتر أو صراع في المنطقة العربية.
وفي تقديري أنها لو كانت حقًا حريصة على استقرار المنطقة لما دخلت بقواتها إلى قطر، ولما أقدمت خلال شهر يناير من العام الماضي على تحريك قواتها العسكرية تحت شعار عملية «غصن الزيتون» ضد جماعات كردية سورية مقاتلة في منطقة عفرين الحدودية بهدف السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية وملاحقة وحدات حماية الشعب الكردية في عقر دارها. وما الذي يمنع تركيا التي تتباهى بقوتها العسكرية من تحريك هذه القوات إلى الجولان المحتل أو إلى قطاع غزة الجريح لأجل فك الحصار وتقديم المعونات. ألا يعد التظاهر بخدمة قضايا الشعوب الإسلامية نوعًا من المتاجرة بقضايا الدول الإسلامية؟
إنني استغرب كيف لدولة إسلامية كبيرة أن تتجاهل مصرع عشرات الصحفيين الأبرياء خلال تغطيتهم لمسيرات احياء ذكرى حق العودة في قطاع غزة بينما تبذل أنقرة جهودًا كبيرة وتحشد كل إمكاناتها بعد مقتل خاشقجي لأجل الضغط على الدول الغربية بهدف اتخاذ موقف دولي لفرض عقوبات على المملكة العربية السعودية، الدولة الإسلامية الكبرى التي ما فتئت تقدم المساعدات الإغاثية بمليارات الدولارات وترسل أطنانًا من شحنات المواد الغذائية والدوائية لكل الدول الشقيقة والصديقة.
وباختصار شديد أقول إنه لم تتمكن تركيا ولن تتمكن من تحقيق أهدافها في المنطقة العربية وسوف تتبدد كل الطموحات الأردوغانية والأتاتوركية كما تبددت وتبخرت الطموحات العثمانية من قبل في المنطقة العربية وفي دول العالم الأخرى. وليعلم الذين يسيرون على خطى إيران وغيرها أن مكانة المملكة العربية السعودية والقيادة السعودية ستكون عصية ومستحيلة على أن ينال منها الطامعون والحالمون والواهمون بقدرتهم على زعزعة الاستقرار فيها.