د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تبدو أندية كرة القدم الأكثرَ حظًا على هذه الأرض؛ فبالرغم من أن مردودَها متجهٌ لمُلّاكها ولاعبيها ومدربيها وبعض إدارييها وفنييها ولا يكادون يتجاوزون رقمًا من خانتين فإنها تُشعلُ الملايين ممن لا ناقة لهم ولا جمل في أنصبتها غير استنزاف أوقاتهم وأعصابهم وشيءٍ من مدخراتهم دون أن يكون لهم دورٌ في خطةٍ أو لاعبٍ أو مدرب، وكل ما يطالهم رضًا ذاتي مؤقتٌ يشعرهم بانتماءٍ هلاميٍ لعالم ليس لهم فيه إلا كَد وجُهد وخيبات أكثر من المسرات، وليس بعيدًا عنها حفلاتُ الطرب ومسارحُ التمثيل ودورُ السينما، حيث لا رأيَ للمتابع في الشخوص أو النصوص، وإنما يأنسون ويبتئسون وفقًا لشدو الكلمة وشجوها، وتبعًا لتراجيدية المشهد أو كوميديته، وغايةُ علمهم حجز المقاعد ودفع المبالغ ومتعة مؤقتة تزول، والأمثلةُ تطول.
** إنها «سخرة» الزمن كما سُخرِيَّته، وإذا كانت «منظمةُ العمل الدوليةُ» قد حرَّمت أعمال السُّخرة بقوانين ملزمة فإنها وسواها لم ولن تستطيع تجريم سُخريَّته؛ فالحياة درجاتٌ تعلو وتدنو فيتخذ الأعلَوْن الأدنين فضاءً لقضاءِ أوطارهم المشروعة والممنوعة، «ورحمةُ ربك خيرٌ مما يجمعون».
** حين توارت تجارةُ الرق ظلَّ الأرِقّاء؛ فتعددوا وتمددوا ورضُوا بالتبعية والدونية وأداء دور المستقبِل السلبيِّ الذي يُشار إليه فيُصدِّق ويُصفق، ويوافق ويمانع، ويلذُّ له الإيماءُ والإملاء، وكان أولى بواحدهم أن يكون حُرًا في قراره؛ فأن تشجعَ ناديًا أو تتحمسَ لممثل أو تتبع مشهورًا لا يعني أن تصبحَ من أصحاب «غزية» التي تغوي فيغوَون وترعوي فيرعوُون.
** هنا ينتصب سؤال الحرية والعبودية؛ فلا فرق بين من يرتهن نفسه لنادٍ أو ممثلٍ أو نجمٍ وبين من ترتهنه أدلجةٌ أو تنظيمٌ أو جماعة، وبالمثل من يُكوِّنون آراءَهم في قضايا الفكر والثقافة والمجتمع بتنميطٍ مُتوارثٍ فلا يعدُون ترديد ما يقال وقول ما يُردَّد، وسوف نتفهم معنى التعصب الكروي بوصفه سائدًا شعبويًا لا يُؤمن بالتنظير ولا يتيح للذهن قبول مفهومي النصر والهزيمة بمنطق التاريخ؛ فماذا عمن يتصدون للفعل المعرفيِّ ويتوقفون عند قراءاتهم الأولى أو إملاءاتهم المبكرة؟!
** هنا سندخل في مفهوم «الانحياز الذاتي» أو «التوكيدي» Confirmation bias الذي يوحي للمرء بما يريد أن يقتنع به فيفسر بنفسه لنفسه نقاط التداخل والتعارض بما يخدمُ أهواءَه واتجاهاته، ويصر معظم «الانحيازيين» على الوقوف عند الأدلة التي تدعم اختياراتهم فيحشدونها وينتصرون لها ويُهملون ما يُعارضها وقد يبالغون في تسفيهها، وربما لجأُوا - حين يُعوزهم المنطق- إلى نظرية المؤامرة فاستنجدوا بها لتكفيَهم عناء الجدل وأدلة المواجهة، وحواراتُ السياسة والرياضة أمثلة لما يصنعه التأثير القَبْليُّ على الذاكرة المنتمية إلى خلفيةٍ قبَليةٍ أو مذهبيةٍ أو إقليميةٍ أو فكرية بما يلغي وجود العقل التحليلي الرافض لليقينيات الثابتة غير القابلة للتساؤل والمساءلة.
** بعضُ الانتماءِ ارتماء.