د.شريف بن محمد الأتربي
تردد منذ قرب نهايات الألفية الثانية مصطلح الجودة، ومن ثم الجودة الشاملة الذي سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم، وظهرت العديد من الجهات التي تبنت هذا المصطلح، وحولته من البيئة الصناعية التي ظهر فيها ليشمل جميع مجالات الحياة، وأصبح العمل على توفير متطلبات الجودة - ظاهريًّا - هو الأهم من المحتوى، بل إن الكثير من المسؤولين سعوا للحصول على اعتماد الجودة؛ ليكون عنوانًا براقًا لمؤسساتهم دون أي اعتبار للمخرج النهائي، خاصة في مجال التعليم.
وحتى يتضح الهدف الأساسي من مقالي هذا أبدأ بعرض أسباب ظهور مصطلح الجودة وتاريخه. وقد ظهر المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية، حين كان أستاذ الإدارة الأمريكي «إدوارد ديمنج» W.Edward Deming (1900-1994م) ينادي بنظريته التي أسماها في ذلك الحين «الرقابة الإحصائية على الجودة»، التي تعبر عن: «بالجودة وحدها وبالتركيز عليها، قبل أي شيء آخر، تتحقق الإنتاجية، وتكون المنافسة، ويوجد الابتكار؛ وبالتالي تتحقق الربحية كهدف أساسي لأية منظمة».
والجودة - حسب نظرية (ديمنج) - تعني في أشمل معانيها: إتقان السلعة أو الخدمة عند تقديمها للمستفيد أو المستهلك، وبصفة دائمة وبسعر مناسب. ومن منظور إداري خالص فالجودة الشاملة تتلخص في: انتهاج أسلوب إداري معين، يهدف إلى تحقيق النجاح طويل الأمد، من خلال إرضاء الزبائن أو المستفيدين بصفة دائمة ومستمرة ومطردة.
ومن الواضح أن تفكير الدكتور (ديمنج) كان ينصبّ بشكل واضح وأساسي على الصناعة؛ فتستطيع المصانع التي تتبنى هذه النظرية إنتاج سلع تنافس بها مثيلتها في بلدانها أو خارجها.
ومع النمو السريع وغير المسبوق في اعتماد هذه النظرية نال التعليم جانبًا كبيرًا منها؛ إذ عمد الخبراء التعليميون في الغرب إلى وضع أسس الجودة في التعليم؛ فظهرت معايير عدة، منها:
معيار (كروزبي)؛ إذ قام «فيليب كروزبي» بوضع أربعة معايير أساسية، هي:
* تحديد تعريف واضح وشامل للجودة؛ ليتكيف مع متطلباتها كافة.
* وضع المعايير التي تُعنى بجودة الأداء؛ وذلك للوقاية من الوقوع في الأخطاء، أو منع حدوثها من الأساس.
* الحرص على أداء الأعمال والوظائف بالشكل الصحيح؛ وذلك لعدم الوقوع في الخطأ.
* عمل تقييم للنتائج بناء على المعايير الموضوعة.
معيار (بلدرج)
كما قام «مالكوم بلدرج» بوضع معياره للجودة الذي تم اعتماده في العديد من المؤسسات التعليمية في العديد من الدول حول العالم. ويشمل هذا النظام مجموعة من المعايير، منها:
* المسؤولية، والقيادة؛ إذ تشمل الإدارة والمديرين.
* البيانات المحللة: التي تتضمن المعلومات كافة التي يتم تجميعها حول التحصيل العلمي: المخططات الاستراتيجية، والإجرائية.
* العمال، والموارد البشرية.
* المديرون التربويون: المسؤولون عن عمل التصميم الأساسي للنظام التعليمي، وتقديم الخدمات، وإجراء الأبحاث.
* النتائج المدرسية: التي تتضمن نتائج الطلاب، أو المناخ الدراسي.
* تقييم الطلاب: ومدى رضاهم عن مؤسستهم التعليمية.
ومن ثم ظهرت العديد من النظريات التي توسعت تحت عنوان الجودة الشاملة لتحدد عدد الطلاب داخل الفصل، وعدد الحصص، ووقت الحصة، وعدد الاختبارات اليومية وزمنها، وغيرها من التفصيلات التي يحتويها المجتمع المدرسي بعناصره المتعددة والمتكاملة.
ورغم ظهور العديد من المؤسسات التي تمنح شهادات الجودة للمؤسسات التعليمية إلا أننا ما زلنا ندور في فلك التجويد الغربي للتعليم من وجهة نظرهم هم للتعليم، وليس من وجهة نظر المجتمعات العربية والإسلامية.
ولعلي أحاول الوصول إلى تقريب بين وجهات النظر الغربية في تجويد التعليم ووجهة النظر الإسلامية من خلال موقفين، عبَّر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أهمية الجودة التي أعتبرها مرادفًا للإتقان. وأول هذه المواقف ما ظهر خلال طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد الصحابة إعادة الوضوء وذلك في الحديث الذي رواه مسلم: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» فرجع ثم صلى.
والموقف الثاني حين طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد الصحابة إعادة الصلاة في حديث مسدد، قال: أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال: حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام وقال «ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ»، فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ» ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره؛ فعلمني. فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».
وبالنظر للحديث الأول نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وجد نقصانًا في الوضوء حتى وإن كان غير ظاهر أمر صاحبه بإعادته في الحال، وليس مستقبلاً، وكذلك في شأن الحديث الثاني حين أمر صاحبه بإعادة الصلاة. والفرق بين دلالة الحديثين يحتاج إلى توضيح بسيط؛ ففي الأول كان نقصان تمام الوضوء ناتجًا من عدم ملاحظة المتوضئ، بينما في الثاني كان ناتجًا من جهل؛ لذا ففي الحالة الأولى كان طلب النبي إعادة الوضوء، ومن ثم إعادة الصلاة، وفي الثاني إعادة الصلاة ثلاث مرات، ومن ثم تعليم الصحابي الطريقة الصحيحة للصلاة.
وأستخلص من الحديثين نقطتين، أولاهما: أن فعل النبي هو أسوة لنا في كل أعمالنا؛ وعليه إن أردنا أن تكون لنا معايير خاصة بنا في مجالات حياتنا كافة أن نستخلصها من أحاديث ومواقف رسول الله - صلى الله عليه وسالم -. وثانيهما أن أي عمل لا بد أن يُبنى على نقطتين، الأولى المعرفة، والثانية الإتقان.
وعودة على ذي بدء، أجد أن وجود معايير للتعليم عربية إسلامية يجب أن تنبع من داخل المجتمع العربي الإسلامي، وأن تكون متوافقة مع تعاليم ديننا الحنيف، ويكون ركيزتها الإتقان، وليس تجميع الشواهد والأدلة على أننا نعمل، ولكنه العمل الذي يوصلنا للحصول على الجودة الظاهرية.
إنَّ مسألة معايير الجودة، خاصة في مجال التعليم العادي والإلكتروني، أصبحت هي الشغل الشاغل للهيئات كافة المرتبطة بمجال التعليم. وقد استحدثت المملكة العديد من المؤسسات التي تعمل على ضبط مخرجات التعليم، لعل من أهمها مركز التقويم والقياس، ومركز تقويم التعليم، وغيرهما.. وكل منها أدلى بدلوه في مجال التعليم ومخرجاته، ولكنها تعمل في ظل معايير خارجية. ولعل معايير التعليم الإلكتروني تُظهر بصورة جلية مدى الحاجة إلى تبني معايير عربية للتعليم. فمنذ ظهر الاتجاه للتعلُّم الإلكتروني تعمل كثير من المنظمات العالمية على وضع معايير له، من أشهرها معايير SCORM. وبالنظر إليها نجد أنها تركز على العمليات أكثر من التركيز على المخرجات. فالتعليم ليس مجرد معلومة تنقل، ولا مهارة تكتسب؛ فالتعليم أشمل من ذلك؛ فهو مزيج بين المعرفة والمهارة والخبرة والتطبيق والرغبة والطموح.. كل ذلك يشكِّل الجزء الأكبر من سمات المتعلمين.
وأخيرًا أطالب المتخصصين في التعليم بالعمل على كتابة معايير للتعلم العادي والتعلم الإلكتروني، تنبثق من المناهج الإسلامية التي ربانا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتكن هذه المعايير أحد متطلبات رؤية المملكة 2030.