عماد المديفر
كنت تناولت في هذه السلسلة عرضاً موجزاً للتطورات الحديثة في بناء النظرية في العلاقات العامة، انطلاقاً من مرحلة ما بعد نموذج «الاتصال المتوازن ثنائي الاتجاه»، وانتهيت في الحلقة الماضية إلى تناول الأبعاد الأربعة التي توصل إليها عدد من علماء العلاقات العامة، في معرض تحليلهم للنماذج المعيارية الأربعة التي عمل عليها «قرونيق» وفريقه. لقد كان ما مضى تمهيداً لهذه المقالة: بناء نظرية «الامتياز» في العلاقات العامة الدولية، التي تعد الخامسة ضمن هذه السلسلة.
إن هذا الانتقال من «النماذج الأربعة» إلى «الأبعاد الأربعة»؛ لم يكن سوى مرحلة انتقالية أخرى، لم تطل، حتى حفزت قرونيق وفريقه للعمل على بلورة التميز في العلاقات العامة في نظرية واضحة ومحددة وعالمية، من خلال العمل على تطوير النموذج الرابع، وفق الأبعاد الأربعة، واختبار صلاحيته في مختلف البلدان والثقافات، فتمكن عبر سلسلة من الدراسات من صياغة نظرية «الامتياز» في العلاقات العامة، ذات المبادئ العامة الأصيلة، والتطبيقات الخاصة المحددة، التي يقول عنها ويكفيلد Wakefield بأنها صمدت في اختبارها عبر ثقافات ومجتمعات مختلفة، وليثبت علمياً بأنها تطبق إستراتيجيات عالمية، كونها أدرجت مفهومين مفيدين في نظرية شاملة للعلاقات العامة المتعددة الجنسيات. المفهوم الأول جاء كنتيجة لدمج طرفي النقيض لرأي مدرستين تنظيريتين سائدتين في العلاقات العامة متعددة الجنسيات. حيث ترى إحداهما بأن العلاقات العامة ينبغي أن تكون مركزية للحفاظ على إستراتيجيات الإدارة والرسائل العالمية؛ فيما جادل الجانب الآخر دعماً للمحلية والتوطين، وذلك لأن المركزية -بحسب منظري هذا الرأي- لا يمكن أن تستجيب للاختلافات الثقافية والاتصالية.
ويأتي المفهوم الأول لنظرية الامتياز التي تعرف بنظرية الأصول العامة والتطبيقات الخاصة أو المحددة (The Generic/Specific Theory) كمزيج من الرأيين، يفضي إلى نتيجة أفضل، وفعالية حقيقية. أما الأساس الثاني من نظرية «عامة/ محددة» فهو في التمييز بين برامج العلاقات العامة من جانب، وإدارة الاتصال من جانب آخر. والأهم من ذلك: تفترض النظرية الحاجة إلى اتجاهين متوازنين في الاتصال (two-way symmetrical) بحيث تسعى اتصالات العلاقات العامة للمنفعة المتبادلة بين المنظمة وجمهورها. كما تضمنت النظرية تحديد المواقع للمسؤولين الأعلى في العلاقات العامة مع الإدارة العليا، والانفصال عن التسويق بحيث يمكن للعلاقات العامة أداء الأدوار الإدارية كالمسح البيئي، وبناء العلاقة مع جميع أصحاب المصلحة، والمساهمين الآخرين في الفعالية. والافتراض المسبق بأن «الامتياز في كون الاتصالات عالمية، أي أنها لا تختلف في كندا، والمملكة المتحدة، أو الولايات المتحدة « لكن لا يزال يرى ويكفيلد وزملاؤه بأن النظرية ما زالت بحاجة لاختبارات عبر العديد من الثقافات.
وقد طور قرونيق وويكفيلد ورفاقهم نظرية الامتياز للعلاقات العامة المتعددة الجنسيات بعد مراجعة للأدبيات في الاتصال التنموي، والأنثروبولوجي، وعلم الاجتماع، وغيرها من المجالات. بحيث أصبحت النظرية تميز وبشكل واضح بين المتغيرات العامة التي تعتبر «ذات امتياز عالمي»، وبين العوامل المحددة التي يمكن أن تؤثر على المنظمة في كل من المواقع المضيفة في جميع أنحاء العالم. حيث ترى النظرية أن بالإمكان تطبيق مبادئ «الامتياز العالمية» العامة في مختلف الثقافات والنظم الاقتصادية والنظم السياسية، ونظم وسائل الإعلام، ومستويات التنمية المختلفة، ودرجة النشاطية (الحراك).
وقد تم التحقق من صحة هذه المفاهيم في سلوفينيا، ثم اختبرت النظرية مرة أخرى من قبل باحثين آخرين في 23 دولة، وتم إجراء بحوث حول مشروع هذه النظرية في العديد من أنحاء العالم من خلال ممارسات 25 شركة متعددة الجنسيات مقرها في 12 بلدًا. وقد أدت الدراسات الأخيرة -بحسب ويكفيلد- إلى نموذج للعلاقات العامة العالمية من الدرجة الأولى، إذ تم تحديد الظروف السياقية التي تؤثر على العلاقات العامة العابرة للحدود بالمتغيرات التالية:
1. الثقافة واللغة (culture and language)
2. الحراك (activism)
3. المتغيرات الاقتصادية (economic)
4. المتغيرات السياسية (political)
5. نظم وسائل الإعلام (media systems)
6. مستوى التنمية (level of development)
وعلى الرغم من أن النظرية قد أخذت في الاعتبار هذه الظروف والمتغيرات السياقية الستة إلا أن البعض من علماء ما بعد الحداثة كـ باردان وهولتزوسن، وبيترسون وتندل (Bardhan and Holtzhausen, Petersen, and Tindall) قد انتقدوا هذه النظرية، وتحدوا أن تصمد خصوصاً وأن ظروف ما بعد الحداثة تتطلب أشكالاً مختلفة من أساليب وممارسات العلاقات العامة. حيث تساءلوا على وجه الخصوص عن مدى نجاعة تطبيقها لدى بعض الدول غير الغربية، ومع ذلك يرى (قرونيق) و(ويكفيلد) بأن ذلك لا يختلف عما سبق أن أشارا إليه بأن العلاقات العامة ليست هي نفسها في كل مكان، وأن هناك أدلة علمية متصاعدة تؤكد مدى فائدة هذه النظرية وبالتالي فإن ذلك يشير إلى بروزها بشكل واضح.
وحيث أن هذه النظرية لا تزال في طور التبلور، يتفق ويكفيلد مع ما ذهب إليه قرونيق بأنه لا بد من التنبه للفوارق الثقافية والسياسية والاقتصادية من بلد لآخر والاستجابة لمثل هذه الفروقات في تصميم الأسلوب الأنسب في العلاقات العامة ولكن استخدام هذه الحجة لا يعني ألبتة تجنب أي تنسيق مركزي لأهداف العلاقات العامة، والرسائل، وآليات المسح الميداني.
وتقوم هذه النظرية على مبادئ عامة «أصيلة» يمكن تطبيقها في مختلف الثقافات والنظم الاقتصادية والسياسية، ونظم وسائل الإعلام، ومستويات التنمية المختلفة، ودرجة الحراك. هي:
1) اشتراك العلاقات العامة في الإدارة الإستراتيجية.
2) أن يكون ممارسو العلاقات العامة جزءاً من التحالف المسيطر في المنظمة، أو تكون لهم علاقة ارتباط وظيفي مباشر بالإدارة العليا.
3) دمج التخصصات الوظيفية الاحترافية للعلاقات العامة بحيث تكون وظيفة العلاقات العامة وظيفة متكاملة.
4) أن تكون العلاقات العامة إدارة مستقلة تماماً عن الوظائف والإدارات الأخرى.
5) أن يرأس إدارة العلاقات العامة شخصية قيادية إدارية.
6) أن تستخدم العلاقات العامة نموذج الاتصال الحواري المتماثل المتوازن ثنائي الاتجاه مع الجمهور (وهو أرقى نماذج قرونيق الأربعة).
7) أن يكون نظام الاتصال الداخلي في المؤسسة متوازناً.
8) أن يكون لممارسي العلاقات العامة معرفة وكفاءة تؤهلهم للدور الإداري ولممارسة العلاقات العامة المتوازنة.
9) السماح بالتنوع والكفاءة الوظيفية دون تحيز لجنس أو عرق وخلافه.
10) الالتزام بأخلاقيات مهنة العلاقات العامة الراقية والشعور بالمسؤولية الاجتماعية.
أما التطبيقات المحددة فتكون بحسب طبيعة الجماهير في البلدان المستهدفة وترتكز على: الثقافة واللغة، والنشاط أو الحراك، والمتغيرات الاقتصادية، والسياسية، بما في ذلك طبيعة العلاقات بين البلدين، ونظم وسائل الإعلام، ومستوى التنمية. إلى اللقاء.