د.ثريا العريض
رغم تعدُّد الأطباق الرمضانية بشكل مبالغ فيه؛ لتشمل السمبوسة والشوربات وأنواع الكباب والكبة وطبخات الرز متعدد النكهات وأنواع المرق والإيدامات والثريد والمرقوق والمحشيات, ثم أطباق الحلويات من الخبيص والمريس والمهلبية واللقيمات.. يظل الهريس عندي ألذ ما تحتويه سفرة رمضان.. وربما متابعة تحضيره والمساهمة فيها هما ما جذَّر هذه العلاقة الحميمة بيني وبينه.
تحضير الحَب للهريس الرمضاني كان فرصة لتجمُّع الأطفال للتفرج على نشاط موسمي متفرد؛ إذ كان اختصاصًا حرفيًّا، يتطلب عضلات أكبر من أكفنا وسواعد أمهاتنا، وله احتفالات وممارسات خاصة به، ومختلفة عن مسؤوليات ربة المنزل. وبعد تحضير الحَب في شعبان يُطبخ يوميًّا في رمضان؛ ولذلك لرمضان عندي رائحة الهريس. وبالرغم من تعدُّد الأطباق المحضَّرة يوميًّا في شهر الصيام يبدو كما لو أن موسم رمضان في مجتمع الخليج العربي يتمحور حول تحضير الهريس كطبخة يومية، تبدأ برائحة اللحم المسلوق متسربة من القدور المنتصبة على أثافي المواقد.
تحضير الهريس عملية متطلبة للوقت والجهد.. وقبل عصر التقنيات الحالية الحديثة والأدوات الكهربائية كان لا بد فيها من تعاون فئات كثيرة. تبدأ بتنقيح الحَب من القشر والشوائب بنفضه في الهواء في مناسف خفيفة منسوجة من القصب الآسيوي, ونقعه بعد السحور لساعات حتى يلين، ثم يتبع ذلك سلقه من الصباح لساعات من طبخ الحَب واللحم بتأنٍّ على نار هادئة، يزيدونها حرارة بتغطية القدور النحاسية بطبقات من الخيش الثقيل؛ كي يحتفظ بتركيز الحرارة دون حرق المحتوى.
وتأتي هنا لحظة مهمة؛ إذ لا تستطيع أمي وهي صائمة أن تتذوق المزيج هل نضج أم لا؟ وهل يكفي ما أضافت إليه من الملح؟ فتغرف ملعقة، وتطلب منا تذوقها، وإبداء رأينا، ويا لها من لحظة تستحق الانتظار.
حفلة إعداد الهريس لا تنتهي بسلق الحَب واللحم المنتقى بعناية، ورفع العظام منه، بل تستمر بعد نضج الحَب واللحم، وإضافة الملح، بتعاون الصغار، ثم تعاون السيدات لدعك الخليط الذي لان مع ساعات السلق الممتد، باستخدام «المضراب الخاص»، وهو أداة خشبية قوية، لها ذراع طويلة مصممة لتمسكه السيدة باليدين في آن واحد، وتسدده بعناية ومهارة لدعك الخليط داخل القدر بضربات قوية حتى يتحول إلى مزيج لزج، يمكن سكبه في «الغناش»، وتغطيته بالسمن البلدي، وتزيينه بالدارسين مجهزًا للإفطار أو للإهداء للجيران.
أتذكر كل ذلك حين نكسر الروتين، ونخرج للإفطار في الخيمة الرمضانية بهذا الفندق أو ذاك كما يفعل الكثير من العائلات. المأكولات متنوعة من شتى أصقاع الأرض، والنكهات لذيذة.. ولكن أين ذلك كله من روائح رمضان الطفولة ومذاق الهريس لعقًا؟