د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عندما يغيب الفن الجيد الجاد يحضر التهريج، وأقصد بالتهريج محاولة إضحاك الناس بأي أسلوب وبأي محتوى، أو الابتذال في اختيار المواضيع. وعندما يجد التهريج دعمًا ماديًا من فضائيات لا تتحرى المحتوى الفني الجيد، وتبحث عن القريب المتيسر منخفض التكلفة يتم تسطيح ذوق المشاهد والهبوط به، وتدريجيًا تتحول البرامج إلى تهريج من أجل التهريج.
التهريج والقوالب الكوميدية الهزيلة ليست ضرورة إعلامية رمضانية، وتعويد الناس وبرمجتهم عليها هدفه اقتصادي بحت وهو الترويج لمأكولات ومشروبات أكثرها غير صحي، فجمعت بعض الفضائيات بين تسميم العقول وتسميم الأجساد.
والأخطر من هذا وذاك هو قناعة البعض بأنه يجب أن يعرض للملأ كل ما هو شاذ ومنحط على أنه مسكوت عنه في مجتمعنا، وينظر لذلك كنوع من الصراحة والواقعية الفنية. فالمُفصح عنه في مجتمعنا هو حياتنا الطبيعية، وثقافتنا الاجتماعية وأعرافنا وأخلاقنا التي تطورت معنا لسنين. قد لا تكون مثالية وكاملة ولكنها هي تلك التي ارتضيناها وتطورت معنا، واعتدنا عليها ونعتز بكثير من جوانبها. والمسكوت عنه هو الجانب غير الأخلاقي غير المقبول.
ومثلنا أيضاً مثل سائر المجتمعات لدينا ما يسمى الثقافات الثانوية أو الهامشية التي تتعايش مع الثقافة الأساسية وقد تختلف عنها ومعها. الثقافات الثانوية التي تعيش على هامش الثقافة الأساسية للمجتمع تضعف وتقوى حسب التغيرات المجتمعية، وهناك دائمًا صراع شبه خفي في كل مجتمع بشري بين الثقافات التي تتعايش فيه. كما أن هناك ما يشبه الصراع بين الثقافات المتعاقبة في سياقها التاريخي، وهو ليس صراعاً بين أجيال كما يصوره البعض لأن الأجيال متداخلة ولا قطيعة واضحة بينها.
الثقافات مكونات حية من مكونات المجتمع تنمو وتتطور وتتفاعل بشكل بطيء ومستمر، فالثقافات القديمة لا تموت كلية لكنها تبقى جزءاً من تكوين الثقافة الحالية والذاكرة المجتمعية. هذه الصراعات والتطورات، أفقية كانت أو عمودية، يسبرها المهتمون بها وتشكل مادة دسمة للأعمال الدرامية والفنية.
ظهرت في البرازيل - على سبيل المثال - أعمال درامية رائعة عن ثقافات مدن الفقراء «الفافيلاز» التي تتلامس في جوارها وتتناقض معيشيًا بشكل صارخ مع مدن الأغنياء؛ مما يضطر الفقراء الى التعايش معها بشكل يومي، فالفقراء يهبطون الى مدن الأغنياء نهارًا ليخدموهم ويصعدون لأكواخهم الفقيرة وحياتهم القاسية في الجبال ليلاً. وكثير من الأعمال الفنية صورت طموح شباب الفقراء للتماهي مع سكان المدن الأغنياء حتى ولو تطلب ذلك العنف والإجرام.
وفي أمريكا أعمال درامية خالدة عن ثقافة الملونين، وعلى وجه الخصوص الأفارقة الذين اقتلعوا من مجتمعاتهم وهوياتهم ولغاتهم بالقوة ليعيشوا في مجتمعات غريبة كعبيد. وما يميز هذه الأعمال ويخلدها ليس مواضيعها بل حبكتها الدرامية المحكمة، وحواراتها العميقة.
عندما تغيب السيناريوهات المحكمة والحوارات العميقة عن بعض أعمالنا الدرامية يحضر السرد الأفقي الرتيب، ويبدأ تمطيط المشاهد بشكل ممل. كما وقد يحضر التهريج ومحاولة إضحاك المشاهد بأي أسلوب وبأية تكلفة للتغطية على الفقر الدرامي. والإضحاك والاستهزاء المباشر يختلفان عن السخرية المقبولة. والكوميديا تختلف عن التهريج في كونها دائمًا طريفة ومبدعة في منطقها وأسلوب إبرازها للتناقضات المعتادة بقوالب غير مألوفة، بينما التهريج يعتمد على إعادة الواقع بصورة مشوهة مبالغ فيها تخلو من أي إبداع أو ابتكار. وفي بعض الأحيان يتم استبدال القصور الفني سواء في السيناريوهات أو المواضيع باللجوء لملامسة غرائز الإنسان النفسية الأساسية، كالجنس أو العنف أو حب الفضول والتّلصص واستراق النظر على خصوصيات الآخرين، وهو ظاهرة فنية تعرف بالـ voyeurism.
والتلصص ميول نفسي قوي لدى الفرد تحدوه رغبة في الاطلاع على كل ما هو خاص وحميمي لدى الآخر سواء كان فردًا أو مجتمعاً، وقد يتمحور حول معرفة كل ما هو شاذ وخاص في المجتمع ذاته. ونبهنا ديننا الحنيف إلى أن الشذوذ السلوكي من طبيعة بعض البشر، وأمر نبينا الكريم المبتلى أن يستتر «إذا بليتم فاستتروا».
فن استعراض المسكوت عنه هو فن هتك ستر المجتمعات وإظهار المبتلين فيه والتلصص عليهم، وهو فن رائج تجاريًا على الرغم من أنه ينطوي على مخاطر اجتماعية.
النصوص والسيناريوهات الجيدة أهم مكونات العمل الفني، الإنتاج والإخراج والتمثيل جميعها تخدم النص، وتنقله من نظام سيميائي لغوي إلى نظام آخر يجمع اللغة والصورة والحركة ويخاطب كل الحواس مجتمعة. والانفصام التام بين العمل الفني والواقع مستحيل، والتهريج من أجل التهريج دون انعكاس ثقافي غير واقعي، ولو افترضنا ذلك وقبلنا به، تحول العمل الفني إلى شكل بلا مضمون وإلى واقع آخر غير مفهوم وغير مستساغ وغير مؤثر. فالفن ببساطة واقع وجزء من الواقع.