عبده الأسمري
ورث العلم فكان «ابنًا بارًّا»، واستورث البيان فظل «وريثًا مطيعًا»؛ ليكون «سر» أبيه، وعلانية «عائلته».. تكامل مع العلا فجنى ثمار «القرآن»، وتماثل مع العلالي فقطف أينع «البيان»..
أحسن همته فأتقن مهمته فاقتسم من «الأرض» هدايا الذكر.. وتقاسم مع «الرفقاء» عطايا الفكر.. متجهًا إلى أمنية الشمول «بحسن أولئك رفيقًا».
إنه إمام وخطيب الحرم المدني الشريف الدكتور عبدالمحسن القاسم، أحد أبرز الأئمة والخطباء ورجال الفقه والقضاء.
بوجه دائري موشح بالوقار، تشع منه ومضات «السكينة»، وتنبع فيه إضاءات الروحانية وملامح مألوفة، تتشابه مع والده، وتتواءم مع قبيلته «قحطان»، وتقاسيم ناضرة، سبغت بروح الإيمان، وعينَين لامعتَين، تنضخان بالذكاء والنباهة، تتحركان من خلف عدسات طبية بخشوع حين القول، وهجوع حين السماع، مع ذقن خفيفة مشذبة الجوانب، وصوت خليط بين الإبداع والإمتاع، مسجوع بلكنة فريدة سديدة، تصدح بآيات الذكر الحكيم، وتترافع بمقامات القراءة، وتتسامى بلغة بديعة محسوسة، تكاد تُرى بالعين مع عبارات فصحى، تلألأت بحكمة الخطابة، وازدانت بحنكة الإجابة.. قضى القاسم من عمره عقودًا وهو يرسم مشاهد «التقى» في المدينة المنورة معتليًا «منبر» المسجد النبوي، رافعًا راية «التوجيه الديني» في ثاني أطهر بقاع الأرض مكملاً مهامه في ميادين طلب العلم، وعلى طاولات المحاكم، ووسط موجهات الحكم القضائي والاحتكام الشرعي.
في مكة المكرمة وُلد وترعرع في كنف «العلوم الشرعية» فنشأ مخطوفًا إلى موشحات الرسائل الفقهية في مجلس والده، وركض بين شعب عامر وجبل النور مراقبًا فلول المعتمرين وأرتال الحجيج وهم يرددون التلبية؛ فامتلأ قلبه بنداءات الإيمان.. وملأ حارته الصغيرة ببراءة موسومة بالنبوغ، كانت تتشكل على أسئلة اعتمرت ذهنه، واستفسارات اعتلت وجدانه فكانت الإجابات شافية في حضور أبيه، والمتطلبات مقضية وسط عاطفة أمه، فاكتملت في أفق أحلامه «بهجة الأمنيات»..
انخطف إلى الإلحان السماوية من «مكبرات» مآذن البيت العتيق، وتعتقت روحه بسمو «الشعائر»، وانعتقت طفولته من دلال «المرحلة»؛ فتعلم «الجد» باكرًا وهو يردد بروفات أصوات القرآن وراء أئمة الحرم؛ فتلبسته «مشاعر الانجذاب» إلى مزامير الحجاز التي تشبعت بها جوارحه؛ فتعلم العذوبة في صوت علي بن جابر، والسلاسة في تلاوة صالح بن حميد، والمقام في ترتيل زكي داغستاني، والبراعة في لكنة عبدالرحمن السديس، والنغم في أداء عبدالله خياط؛ فظل يجمع النغمات في ذهنه، ويستجمع المقامات في عقله؛ ليقيم أمام بصر التقييم صرحًا من التدريب.
تأثر القاسم بدروس والده التي كان يلقي إليها السمع، ويستقبل منها الدافع، وظل يتأبط أوراقه الخاصة؛ ليدون عليها فوائد الشريعة وغنائم التوحيد ومغانم الفقه في شروح الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ التي كانت «توليفة سحرية» للظفر بمطالب الدراسة ومتطلبات البحث؛ فكبر وسط متون «النقاش»، ورُبى بين فنون «التفكر والتدبر»؛ فظل ملازمًا لأبيه، مقتفيًا أثره، محتفيًا بمآثره؛ فحصد البر والإحسان، ورصد المعنى والنتيجة؛ ليكتب قصة النهار «علمًا»، وملحمة المساء «معرفة»، مرافقًا الكتب، متعلمًا الوثب بخطوات الواثق ومسيرة الحاذق؛ ليرسم مشهد السداد بحبر «اليقين» وجبر «الحنين».
سيرة مضيئة، أضاء القاسم دروبها بشعلة «التحدي» مبتدئًا بحفظ القرآن وتجويده، وملازمة العلماء، نائلاً درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الفقه المقارن والإسلامي في خطوات متلاحقة متسارعة، رافقت بُعد نظره.
عُيّن القاسم في منصب إمام وخطيب المسجد النبوي منذ عام 1418، ولا يزال، وعمل قاضيًا في المحكمة العامة ومحكمة الاستئناف بالمدينة المنورة، وعضو لجنة تحكيم مسابقة القرآن الكريم العالمية. والمشرف العام على أكاديمية القرآن الكريم والسنة النبوية.
وألّف نحو 15 كتابًا في مختلف علوم الشرع، كانت شاهدة على المحفل الديني الذي دفع القاسم مهره «فكرًا» فكان المتوج بأوسمة «المهارة»، والمكرم بنياشين «الموهبة».
أقام القاسم بطولة خاصة، كان فيها القرآن الكريم «قاسمًا مشتركًا أكبر»، و«حلاً سريعًا»، و«ناتجًا فاعلاً» لقيم الانفراد ومكارم التفرد.
في طيبة الطيبة قال التاريخ كلمته بعد أن اكتمل «الامتياز» بدرًا، و«الاعتزاز» قدرًا، مسجلاً عبد المحسن القاسم في صفحات الأنقياء الأتقياء بحروف الأثر، ووصوف التأثير.