عبدالعزيز السماري
مهما أسهبنا في الحديث عن ثقافة الاعتذار سواء إيجاباً أو سلباً، فإنها تعتبر عادة محدودة الانتشار في ثقافتنا، على الرغم من وجود ذكر في الأثر النبوي على فضل الاعتذار، والحث عليه، ولو راجعنا تاريخنا الحافل بالتدوين والسير لما وجدنا اعتذاراً في الواقع عن أخطاء ارتكبها رمز في حق الآخرين، ولكنها كانت حافلة بالإقصاء والتمجيد والإصرار على أنه الصواب والحق المبين.
بينما حفل التاريخ الغربي بتاريخ من الاعتذارات، والتي كانت تشكل مراحل في تطور العقل ومفاهيم الإنسان، وهو ما يختلف فيه عن الجانب العربي، والذي كان تاريخاً من الحلقات المتشابهة، بينما في الغرب بمختلف ثقافاته كان مراحل تتقدم وتتطور بتقدم الزمان.
في عام 1077 ميلادي اعتذر الإمبراطور الروماني المقدس هنري الرابع للبابا غريغوري السابع عن نزاعات الدولة الكنسية، من خلال الوقوف حافي القدمين في الثلج لمدة ثلاثة أيام.
في عام 1403 م، أصدرت ملكة الدنمارك مارغريت الأولى إعلانًا يعتذر للفلاحين عن «العبء الكبير والكدح الكبير» الناجم عن «القسوة والجشع والإصرار» التي يرتكبها كتبتها، والمحصرون، وهي نفسها.
في عام 1696 م، اعتذر قاضٍ واثنا عشر محلفًا عن محاكمات ساحرة في نيويورك في عام 1692، حيث أعلنت المستعمرة يومًا من الصوم والصلاة للتكفير عن الظلم.
أصبحت بعد ذلك ثقافة عامة في الغرب ووسيلة لمراجعة النفس، قد تصل في بعض أوجهها إلى درجة الفضيلة، فاعتذار الإنسان عما اقترفه في حق الآخرين من أخطاء أو إساءات يعبِّر عن وعي ونضوج يستحق الإشادة، وعادة ما تحفل وسائل الإعلام الحديث بالاعتذارات العلنية من قبل المشاهير عن أخطائهم، وقد أصبح هناك مواقع ترصد أشهر الاعتذارات كل عام.
في الشرق الآسيوي، تشتهر اليابان بتعابير الاعتذار الكثيرة، والتي تبدو في بعض إيماءاتها إنكاراً للذات لدرجة الامتهان، ويراها الأغراب أسلوباً للحياة في تلك البلاد، ومنها إيماءات وحركات كرفع اليد مقابل الجبهة اعتذاراً والتماساً من قبل اليابانيات المسنات صغيرات الحجم بينما يحاولن المرور بين حشود المارة كزوارق صغيرة في بحر متلاطم.
وسائل الاعتذار في اليابان شتى، ولا تقل عن عشرين وسيلة حسب بحث لمحطة إل بي بي سي، والاعتذار دواء لكل داء في اليابان، ولغة عامة تعكس الثقافة الأشمل لتلك البلاد. وكلمة «آسف» بمختلف تعبيراتها نافذة تطل على دهاليز الأدب والاحترام والخلق، يشرحها جزئياً واقع العيش في جزر مزدحمة، وقاعدة أن يعامل المرء الآخرين كما يحب أن يعاملوه.
وعلى الرغم من أننا نردد كثيراً أن الاعتذار من شيم الكبار إلا أن الواقع وتاريخ الأحداث يخلو من ظاهرة الاعتذار، على الرغم من الحث عليه في الأثر الديني، وهو ما يفتح التساؤل عن سر ذلك في ثقافتنا الغنية بتنوع معارف الأدب والأخلاق، ولماذا خلت في الغالب من هذه الإيماءات الجميلة التي لا تقلل من قدر الإنسان، بل تزيده رفعة ومكانة، وعادة ما تكون لها تأثيرات جمة إن صدرت من أشخاص مؤثرين عن أخطاء ارتكبوها في حق الآخرين.
ربما علينا أن نتوقف قليلاً ونرجع إلى الماضي، ثم نطالب ولو باعتذار بسيط من أولئك الذين ارتكبوا المجازر وعلقوا المشانق في الشوارع، ودمروا المدن وأهلكوا القرى، وأسقطوا الدول، ثم أضاعوا مستقبل الملايين، ولكن هل نجرؤ على المطالبة بحق الاعتذار منهم، أم نكتفي بثقافة الصمت أمام هذا التاريخ الذي لا يزال يرفض محاولات النقد والمراجعة... ولكن لنفرض أننا قررنا المطالبات باعتذارات من هؤلاء، فمن أين نبدأ؟