الملايين كتبوا عن الأم، وتغنوا بفضلها على مر القرون فماذا عساي أن أضيف هنا؟ قال الشاعر:
ما أرانا نقول إلا معارًا
أو معادًا من قولنا مكرورا
نحن جيل طلاب الدرجات، وليس المهارات يا ما طلب منا معلمو التعبير أن نكتب موضوعًا عن بر الوالدين حتى حفظنا عن ظهر قلب بعض أحاديث المصطفى وأبرزها حديث:
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك».
الكتابة عنها سهل ممتنع، صعب مستصعب، وكلنا يعرف فضلها، وأنها مصدر وجودنا وإلهامنا، وأنها.... إلخ، والكثير منا يجيد التعبير عن ذلك مشافهة ويعجز عنه كتابة، والكثير منا لا يدرك معنى الأم والأمومة حق الإدراك إلا حين ينجب أولادًا!
الأم أو ماما كما تنطق في جميع اللغات، قليلة الحروف، ينطقها الطفل في شهوره الأولى بسهولة، لأنه يراها الحب، والأمن، والحنان، والعطف، والسعادة، ومطعمه ومشربه ومشفاه، بل حياته، فيتعلق بها أشد التعلق. وحين يكبر إلى الرابعة عشرة يفقد بعضًا من هذه المعاني ليؤكد استقلاله. وفي الأربعين تداهمه لحظات الصحو بين حين وآخر: أريد أمي، أريد أن أعود إلى حضنها، وأتذكر أكلاتها وكلماتها. ويكتشف فجأة أنه أصبح نسخة منها، وما كان يرفضه من توجيهاتها يكرره مع أبنائه.
هي مصدر وجود الإِنسان، وبطنها مسكنه الأول، وحضنها مسكنه الثاني، وصدرها مطعمه ومشربه، وحبها واهتمامها ورعايتها هي حياته.
كل الأديان والمعتقدات رفعت قدرها، وخصوصًا الإسلام الذي جعلها بابًا من أبواب الجنة، ورضاها من رضا الله، وسخطها من سخط الله، وبرها أفضل من أعظم العبادات لقوله (صلى الله عليه وسلم): «بر الوالدين أفضل من الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، والجهاد في سبيل الله». وزادها شرفًا أن برها جهاد فقد رد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحد الصحابة حين أراد الجهاد معه قائلاً: «ويحك الزم رجلها فثمّ الجنة».
في تاريخنا الإسلامي كثير من الأمهات اللاتي سطرن أسماءهن بمداد من ذهب، أبرزهن أمنًا خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- التي وهبت مالها، ونفسها للإسلام.
والأم المخلصة المضحية صانعة تاريخ الإِنسان، فهي جامعته ومدرسته الأولى لقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولى
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
في كل سنة تحتفل معظم دول العالم بعيد الأم في تواريخ مختلفة، ويحتفل به العالم العربي في أول يوم لدخول الربيع الحادي والعشرين من شهر مارس لأنها ربيعنا. وهي بدعة أمريكية حسنة أرجو أن يثاب مؤسسها وفاعلها، ولا يعاقب تاركها!
في عيدها المبتدع لا يكفي أن نهديها أجمل الملابس، أو أزكى العطور، أو أغلى قطع الذهب والألماس، وأعظم هدية تتمناها الأم طاعتها، واحترامها، وتقدير جهودها، وزيارتها، وخصوصًا الوفاء لها في شيخوختها ومرضها. فكم رأينا أمهاتٍ يتحسرن على أولادهن وهم يهدونهن أموال الدنيا، ثم يهجروهن. وأكثر ما يؤلم الأم حين يأتي العيد فلا ترى من وهبته عمرها. والمؤلم أكثر حين يزورها أبناؤها زيارة مجاملة وهم متشاغلون عنها بأجهزتهم «الغبية».
ونحن المسلمين كل أيام السنة هي أعيادها، فالإسلام حث على برها وطاعتها في غير معصية الله ولو كانت كافرة!
ولله در الأم تحمل وليدها وهنًا على وهن، وتحمله كرهًا، وتضعه كرهًا، وترضعه فيمتص عافيتها، وتقول لصويحباتها: لقد تعبت من حملي وولادتي، وكدت أموت، ولن أعاود الحمل مرة أخرى. وما أن تبرأ من جراحها وتنسى آلامها، حتى تعاود الحمل مرة أخرى!
وتبقى الأم هبة الله للإِنسان لا تقدر بثمن، وهي وصية الله -عز وجل- التي سيسألنا عنها:
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (15) سورة الأحقاف.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (8) سورة العنكبوت.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسان بِوَالِدَيْهِ} (14) سورة لقمان.
فلينظر كل منا كيف سيؤدي هذه الوصية، ويومًا ما سيلتفت يمينًا ويسارًا ولن يراها، وحينها لا ينفع الندم، فيدعو لها: وقل ربي ارحمها كما ربتني صغيرًا.