د.ثريا العريض
سواء كان للكلمات ألوان أم لا، هي معلومة لم أستطع أن أحققها على الأرض واقعيًّا.. ثم تأتي كلمات تحمل خليطًا مركبًا من الصور المتدفقة في تيار الوعي. كلمة «رمضان» مثلا تتسع لبريق الصحون الجديدة, ودوي طبلة المسحراتي, ورائحة «الهريس», وماء الورد, والسكر والبخور بملابس العيد.
«رمضان» كلمة تختزل «زمن يحرك كل وجدان وأحاسيس البهجة».
تحضير الحَب للهريس الرمضاني كان فرصة لتجمُّع الأطفال للفرجة على نشاط موسمي متفرد؛ إذ كان اختصاصًا حرفيًّا؛ يتطلب عضلات أكبر من أكفنا وسواعد أمهاتنا، وله تفاصيل خاصة به خارج مسؤوليات ربة البيت؛ إذ يحضر رجال «مختصون», يرتبون معداتهم في فناء المنزل, وينصبون ما يشبه «النجر الكبير» منحوتًا من قطعة واحدة ضخمة من الخشب, أو لعله جذع شجرة «مقور» بعناية؛ لتتحول إلى إناء يشبه الجرس الضخم المقلوب بفوهة واسعة مفتوحة باتجاه الأعلى, وله قاعدة قوية صلدة، ترفعه عن الأرض, ومعه قطعتان من الخشب المنحوت في صورة يد «هاون» خشبي ضخم، يمسك باليدين لدق الحب. يقف كل رجلين متقابلين وبينهما «النجر» ممتلئًا لمنتصفه بالحَب, ويتناوبان ضرب الحَب بإيقاع منتظم, وتحريكه بحرفية عالية حتى يتم تقشيره أو تكسيره إلى الحجم المطلوب. وقد يهمهمون بأهازيج غير مفهومة، لعلها متوارث إفريقي بإيقاع موسيقي يتزامن برشاقة فنية متناسقًا مع تحركات الذراعين إلى أعلى، ثم هبوطها بقوة هائلة داخل الهاون مع طرقات المدق.
لرمضان رائحة الهريس.. فرغم تعدد الأطباق المحضرة يوميًّا في شهر الصيام يبدو كما لو أن موسم رمضان في مجتمع الخليج العربي يتمحور حول تحضير الهريس كطبخة يومية، تبدأ برائحة اللحم المسلوق متسربة من القدور المنتصبة على أثافي المواقد.
قبل قدور الضغط كان طبخ الهريس يحتاج إلى قدور نحاسية ضخمة الحجم، تُستورد من الهند، لها تصميم مختلف عن طناجر الألمنيوم العادية المستخدمة في تحضير الرز والطبخات الأخرى. ولهذه القدور النحاسية الضرورية لهريس رمضان مراسم تأهب وإعداد مسبق قبل حلول الشهر, تستدعي أيضًا أن يأتي حِرفي متخصص، هو «الصفار»، إلى ساحة المنزل، ويقوم بتنظيف القدور و»تصفيرها» من الداخل بإضافة مادة ما، يسيلها تحت حرارة نار عالية، ويطلي بها جوف القدور؛ فيصبح لونها أبيض فضيًّا لامعًا، يختلف عن لون النحاس المعتم خارجها الذي اسودّ مع تكرار استعمالها مباشرة فوق لهب النار موسمًا بعد موسم.
وتحضير الهريس تجربة في ذكريات طفولتي برائحة وألوان لا تُنسى، شكَّلت ذائقة مستدامة، تشتاق إليه بشغف طفولي، لا يعادله عشق آخر.
حين زرتُ قبل سنوات مدينة أبها البهية للمشاركة في الحوار الوطني، وحظينا بدعوة كريمة لزيارة قرية ابن حمسان في خميس مشيط، وتناولت لأول مرة «المثلوثة»، كان الهريس أحد مكونات طبقاتها الثلاثة. وعند هذا المذاق الجديد تدفقت مشاعري بالعشق الطفولي القديم.