أ. د. خلف بن حمود الشغدلي
لقد شاهدتُ واستمعتُ إلى اللقاء التلفزيوني الذي أجراه الإعلامي «المديفر» في برنامجه الجديد «الليوان» مع الدكتور عائض القرني، وقد تكلََّم القرني كثيراً عن الصحوة ومحاسنها ومثالبها، باعتباره من رموزها، مع قناعتي ويقيني الراسخ بأن الصحوة الحقيقية - إن صح إطلاق هذه الكلمة مع تحفظنا عليها لأن الحزبية الإسلامية هي التي نشرتها - هي التي يؤسسها ويقودها أهل العلم الراسخون فيه، الذين يُعلِّمون الناس، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بكل ما يستطيعون، وحسب طاقتهم وجهدهم، يبتغون بذلك وجه الله، فلا يوجد عندهم تحزُّب بغيض، ولا تحيُّز مقيت، ولا تفرّق مذموم، يلتفون حول ولي أمرهم، ويعملون معه، وأيُّ دعوة وإصلاح لا يقوده العلماء الراسخون فلن تجني الأمة منه إلا الشوك والحنظل.
وقد أظهر القرني الندم على أخطاء تلك المرحلة، التي كنتُ معاصراً لكثير من أحداثها، وأكد على وجوب السمع والطاعة لملوك هذه البلاد المباركة «المملكة العربية السعودية»، وعظََّم البيعةَ الشرعيةَ، وأشاد بعدة رموز علمية ودينية في المدرسة السلفية، بل عند المسلمين جميعاً، وهم الأئمة الأخيار والمشايخ الأبرار: (ابن باز - ابن عثيمين - الألباني - صالح الفوزان)، وانتقد نفسه ومن معه من مشاهير الدعاة في تلك السنوات التي واكبت الثورة الخمينية، وكان منظموها ومنظِّروها من أصحاب الإسلام السياسي في الغالب، كانوا على منهج الإخوان المسلمين، ومنهج محمد سرور زين العابدين، في تنظيمه، وهم التيار السروري كما يُقال.
وقد ظهر جلياً الوجه القبيح لهذه الحركات والتوجهات في حرب الخليج الثانية، إبّان غزو «صدام» للكويت، ففي الوقت الذي أجمعت القيادة السياسية في هذه البلاد المباركة، ممثلة بالملك الراحل «فهد بن عبد العزيز» - رحمه الله - وأركان دولته، وقد وافقته القيادة العلمية والدينية في هذه البلاد، ممثلة في هيئة كبار العلماء، وعلى رأس الهرم فيها، سماحة الإمام الشيخ «عبد العزيز بن باز» - رحمه الله -، والتي كان يرجع إليها المسلمون في كل أقطار الأرض، وليس السعوديون فحسب؛ فخالفت قيادات هذه التيارات -أو ما يسمى الصحوة- الدولةَ وأهل العلم، وخالفوا النقل والعقل، ضاربين بالنصوص الشرعية والمصالح المرعية عرض الحائط، ووافقوا موقف جماعة الإخوان المسلمين الذين - وبكل أسف - ساندوا الظالم والصائل والمعتدي آنذاك، وهو حاكم العراق «صدّام حسين»، فلم يقيموا وزناً لقرارات ولاة الأمر، ولا لإجماع هيئة كبار العلماء في تلك الأيام، ولولا فضل الله علينا ثم حزم القيادة معهم؛ لحدثت فتنة لا يعلم مدى أضرارها وتداعياتها على البلاد والعباد إلا الله.
اعترف «عائض القرني» بثلاث سلبيات عظيمة له ولقيادات الصحوة في تلك الأيام:
1 - الصدام مع الدولة، مع أنها صاحبة الولاية الشرعية.
2 - تهميش أهل العلم الراسخين، الذين طالما ناصحوا وحذروا من هذه الأخطاء وهذه النزوات لأولئك الشباب الأحداث، الذين يتبعون مناهج وأحزاباً مبتدعة.
3 - التشديد على الناس وإلزامهم بما لم يلزمهم به الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قلت : وقد كان شعار تلك الفترة - في الأغلب - أن الداعية كلما تشدد؛ حاز على إعجاب الأتباع.
وقد صدق في هذا، وهذه بعض سلبيات الحزبية المقيتة التي أخرجتهم من سعة الإسلام ورحابة أفقه، ويُسره وتبشيره إلى ضيق الجهل والهوى.
وفي اعترافاته بيَّن خيانة النظام القطري، الممثَّل بنظام «الحَمَدين»، خصوصاً فيما يتعلق بالأضرار بالسعودية، وجلب المعارضين، بل صنعهم، وفتح القنوات الإعلامية والمالية والسياسية لهم، وهذا معلوم ومفضوح، وهذه الشهادة زيادة في البيان، واعترافه - بلا شك - يؤكد تورط حكام قطر في خيانة الأمة الإسلامية والعربية بصفة عامة، والدول الخليجية بصفة خاصة. وشهادته تؤكد توظيف النظام القطري للمال السياسي، واستجلاب المعارضين والعملاء للعمل لحسابهم، وهذه شهادة واقع ومن مُجرِّب.
فليحذر كل عالم وشيخ وأستاذ جامعي، أو وجيه في مجتمعه من الانخراط في كل شيء، والحديث عن كل شيء، وليكن له على باله قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء : 83].
ومعلوم أنه من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه، وما لا يعنيه هنا هو ما لا يُحسنه، مما عافاه الله منه، وابتلى به غيره من المسؤولين.
وهل جلب الويلات والنكبات على المجتمعات الإسلامية، وعلى كثير من المشايخ والوجهاء إلا تدخُّل البعض في شؤون السياسة والحكم، مع أنها ليست من شأنهم، ولا عملهم، ولا يحسنونها أصلاً.
وكثير من هؤلاء المشهورين لا يُحسن تدبير أمور بيته وأسرته، ثم يطمع بعد ذلك أن يتكلم في شؤون الشعب والرعية والحكام والولاة والسياسة الدولية، وهو بذلك ظالم لنفسه، وظالم لغيره.
والعدو الراصد والمتربص يعرف من أين تُؤكل الكتف، ويعرف أن مثل هؤلاء الجهال المتعجلين هم أبواب توصلهم لمآربهم.
وتوبة «عائض القرني» واعترافاته لا شك أنها جيدة وشجاعة، وتقدَّر له ولعلها تكون سبباً في رفع الغشاوة عن أعين الكثير من المخدوعين بهذه التيارات المشبوهة والمنحرفة، والتي تعمل خارج إطار الدولة، وإني أدعو كل من كان على نهجه إلى التوبة والرجوع والبيان والاعتذار لولاة الأمر في هذه البلاد المباركة، ولأهل العلم، وللشعب السعودي كما فعل الدكتور عائض القرني.
واعترافات القرني الكثيرة ليست غريبة على أهل العلم الراسخين، وطلبة العلم الموفقين، فهم مُدركون لها، بل كانوا منذ أكثر من ثلاثين عاماً يُحذرون من أخطارها، ويردون على أخطائها، ولعل كثيراً من المؤدلجين والمسيسين من أتباع هذه التيارات الحزبية أن يستفيدوا من اعترافات القرني وتكون ردة فعلهم في توبته التخلص من توجهاتهم وأفكارهم المسيسة.
وإذا صحّت النية، وخلص القصد، وصدقت التوبة بشروطها المعروفة؛ فلا يضر التائب أقوال الناس وظنونهم بعد ذلك إذا ما جاءت مخالفة لواقعه الجديد، فقد قال تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160].
وأقترح على الدكتور «عائض القرني» أن يتوّج هذه التوبة والاعترافات، ورجوعه إلى صف بلاده وقيادته وعلمائه، فأدعوه إلى توثيق ذلك بكتابٍ يبين فيه كل ملابسات تلك المرحلة. وأن يتضمن الكتاب الإشادة والاعتذار من ملوك هذه البلاد الأخيار، الذين وسعوه بحلمهم وكرمهم، والإشادة بعلمائها الذين علَّموه وقوَّموه، وصبروا عليه وعلى غيره من المخطئين، والإشادة - كذلك - بطلبة العلم الناصحين الذين فطنوا مبكراً لأخطائه ونزواته، فناصحوه وكاتبوه، وفطنوا لكثير من أخطاء تلك المرحلة.
وما وقع ممن يُسمُّون أنفسهم دعاة الصحوة من الشرور والفتنة وتهييج العامة على الخاصة، وإفساد الشباب على أهليهم وأوطانهم حتى صاروا فرقاً وطوائف، منهم من حمل السلاح على المسلمين، من رجال الأمن والنساء والأطفال والعُزَّل والأبرياء.
ومنهم طائفة أخرى لا هم لهم إلا مناكفة الحكام والولاة والعلماء، بل لا يظنون خيراً بهم. ومنهم طائفة عريضة من المتربصين الذين يتمنون الشر لبلادهم وأوطانهم.
هذه الأمور هي التي جعلتني أُشبِّههم بما حدث من المرتدين، بالتسبب بالشرور وسفك الدماء، وشق عصا الطاعة، وفتح الأبواب للأعداء، ومعاذ الله أن أُشبههم بهم من كل وجه. فليتنبه القارئ، ولا يُحمِّل كلامي ما لا يحتمله.
وفي الختام، نشكر الدكتور «عائض القرني» على شجاعته في إظهار توبته ومراجعاته، وبيانها للناس، ولعل هذا يكون محفزاً لرفاقه ومن كان على نهجه سابقاً، أن يراجع نفسه، ويعود لرشده، وصف بلاده، وكنف ولاة أمره، والحضن الدافئ لوطنه.
وإن كنت أرى أن أحق الناس بالشكر في هذه البلاد هم ملوكها ورُعاتها من آل سعود، بدءاً من الملك المؤسس الصالح، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - الذي أسس المملكة العربية السعودية على الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، الذي أثمر هذا الكيان العظيم، وهذه الدولة المباركة، التي عمّ نفعها مشارق الأرض ومغاربها، وكذلك أبناؤه الملوك مِن بعده، الذين حافظوا على هُوية هذه البلاد، وخدموا أهلها، وكل وافد وزائر لها، والشكر موصول لقيادات الصحوة الحقيقية في هذه البلاد، من أئمة الهدى، وأعلام التقى، أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهم الله جميعاً -.
ولكن، كما يُقال: أن تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي أبداً».
وصدق الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأسأل الله للجميع الهداية والصلاح، كما أسأله - جلَّ وعلا - أن يحفظ المملكة العربية السعودية، وأن يجعلها آمنة مطمئنة، رخاء سخاء، وأن يحفظ خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، وأن يجمع بهما كلمة المسلمين على الحق، والحمد لله رب العالمين.