د. حمزة السالم
الأسباب وإن كانت في أصلها قدرية محضة، إلا أنها أحياناً تكون بتسبيب الأمة ككل لها، وأحياناً تكون بسبب قائد منها، أو بسبب فرد أو أفراد. فالتأمل في تميز بعض الشعوب أو الأعراق ليس ترفاً فكرياً، بل هو وسيلة عظيمة لبناء الأمم القوية، ودواء ناجعٌ لعلاج أمراض الأمة الضعيفة، وإجراء وقائي لمنع ظهور توجه عام سياسي أو اجتماعي، أو توجه فردي، قد يكون سبباً في توجيه الأمة وجهة مدمرة، وقد يكون التوجه إيجابياً فيعامل بمعكوس المنع.
وفي القرآن سور وآيات تحكي قصص الأمم السالفة، ما تكررت عبثًا، بل لإشارات لمعاني فيها. فكم فيها من عبر ودروس، منها ما هو صريح ظاهر ومنها ما هو استنباطي لا يظهر إلا بتأمل ونظر، ومنها ما هو ممتنع عن الفهم حتى يأتي زمان تتأتى في القدرة على تصوره، فتظهر حينها دروسه وعبره.
واستنباط سنن الله الكونية هو محور جميع العلوم الحديثة اليوم، سواء أكانت إنسانية كالاقتصاد والسياسة والقانون أو كانت تطبيقية كالطب والهندسة بشتى أنواعها.
وأعتقد أن الحضارة الأمريكية منذ نشأتها، تعتمد جدياً هذه الفكرة تنظيراً علمياً وتطبيقاً عملياً، في شتى مجالات الحياة الأكاديمية والاجتماعية والسياسية. ويكفي شاهداً على ذلك أن الرئيس الأمريكي الثالث توماس جفرسون، أمر بشراء نسخة من القرآن، وذلك قبل كتابة وثيقة الاستقلال الأمريكية بأحد عشر عاماً، أي في عام 1765م فدرسه بعناية وكانت له بخطه تعليقات وإشارات واستنباطات، وقد ذكرت المؤلفات أن هناك كثيرًا من مظاهر تبجيل توماس للقرآن، حتى ذكرت أن بعضهم شكك في إسلامه.
ولا أعتقد أن جفرسون كان مسلماً، ولكنه كان متأملاً في تميزات الأعراق والشعوب بعضها عن بعض، ليستنبط من سنن الله الكونية ما يعينه على كتابة وثيقة خالدة تكون دستوراً لأمريكا. وشاهد هذا، أن الوثيقة لم يكن فيها تحرير العبيد مثلاً، لعدم وجود أصل فكرة عدم الرق ومنعه، في أي حضارة خلت قبل جفرسون.
فالقرآن كان أحد المراجع الرئيسية لجفرسون في بناء فكره الذي كتب به وثيقة الاستقلال الأمريكية، وقد أشارت المراجع الأمريكية لهذا. وأنا لا أستبعد كون القرآن مرجعًا من مراجع وثيقة الاستقلال، بدليل اهتمام توماس الكبير فيه.
ووثيقة الاستقلال الأمريكية، وثيقة عظيمة. فهي التي بررت أسباب رفض الاستعمار البريطاني، فكان فيها إعلان الحرب على بريطانيا، وكان فيها تحديد العُصبة التي تجمع الأمريكان تحت رايتها. فكانت وثيقة بيعة قُدم فيها الدم مقابل ما نصته الوثيقة من حقوق العدالة والمساواة مع ضمانات الحريات والملكيات وحرية الديانة والتأكيد. على حرية التعبير والتفكير. فهي وثيقة تعتبر أصل قواعد فكر الحضارة الأمريكية اليوم ودستورها، التي نرى هيمنتها اليوم على العالم.
وفي رأيي، أن نجاحها النسبي مقارنة بالحضارات والامبراطوريات السابقة، إنما جاء نتاج موافقتها لبعض سنن الله الكونية، التي استنبطتها جفرسون وغيره عن طريق دراسة الاختلافات التي مايزت بين الشعوب والأعراق.