وجد (سمير) نفسه قد أنهى دراسته الثانوية ولم يعد لديه حافز لمتابعة الدراسة ولا باعث يحمله على إكمالها، وتساءل عمّا يبغيه من الدراسة والتعليم في النهاية؟ أهي وظيفةً ليس في حاجة إليها؟ أم شهادة يبرزها ويتحلّى بقيمتها أمام ثُلّة من المعارف؟ وهل تستحق كل هذا التعب والإجهاد؟ إنه خير من يدرك أن ذكاءه عادي ومستواه الدراسي ليس على ما يرام رغم أسباب الراحة وأوقات الفراغ التي تيسّر له الدراسة والمذاكرة؟ إلا أنه كان أكسل من أن يبذل جهداً لم يتعوده، وعلى هذا فقد اتخذ قراره بالانقطاع عن الدراسة وحسبُه الثانوية فان فيها الغَناء.. وأن يتمتع بما أفاء الله عليه من نعمائه، خاصة بعد وفاة والده المُثري وما أورثه من أموال طائلة يديرها شقيقه بشطارة وحذق، فيأتيه رزقه رغداً من الأرباح كل شهر دون أن يتعنّى في تحصيلها، يعيش بهذا الرزق الوفير أترف وأبذخ من سواه حتى من زملائه المترفين، وكان يسرف ويتلف ما يؤتاه من ريع شهري جزيل، ويبعثره بلا هوادة كأنما يثقل عليه الإبقاء على شيء ولو يسير منه، وكان أصحابه من طراز عجيب فلما ألْفوه يصرف ما له دون حساب طمعوا فيه وبادروا للاقتراض منه وحتى الاستجداء، ووجدهم يحفّون به ويتملقونه متلهفين لِما يسخو عليهم به من عطاياه، ولم يكن أخرقاً تجوز عليه حيلهم الخبيثة ومداهنتهم الفاضحة، فقد كان فاهماً لكل تلك الألاعيب ولكنه لم يجد بأساً من مجاراتهم في هذا السبيل إبقاء على الصحبة وإيقاناً بتفاهة ما ينفحهم، وإن كان في قرارة نفسه يدرك أنهم مراؤون لا يُتكل عليهم، ووجد السبيل ليعوذ بهذا النمط المترف المتعالي عسى أن يعالج بعض ما يعتمل في فؤاده من لواعج ومقلقات لا يدري مأتاها، وكان يفطن إلى حد ما أن انهماكه في الملذات يجعله بمنأىً عن التورط في التفكير الذي يضعه في مواجهة مع نفسه ويؤز ضميره أزّا، ومن هنا كان ضيق الصدر نافذ الصبر إزاء أي امرئ قريب أو بعيد يلقنه النصيحة أو ينبهه إلى الطريق الأعوج الذي ينحدر فيه، وقد رأى أنه لا سبيل له في هذه الحياة سوى اتباع هذه المنحى التي انتهجه ورضي به، فما يستطيع غير هذا، أو هكذا خُيّل إليه، وإلاّ التزام هذا الخيط الرفيع والمشي عليه وإلا باءت حياته بالخزي والندامة، فإن الواجب ثقيل، والالتزام بالتبعة والمسؤولية يكلفه شططاً وينغّص عيشه ويضعه في دوامة من الواجبات وكل هذا يثير تثاقله وتململه، ويكاد رتم حياته يجري على نسق واحد لا يتغيّر بينلنوم إلى قرب العصر ثم الاستيقاظ وتناول طعام خفيف مع القهوة السوداء، والبقاء مع والدته وأهله حتى العشاء ثم الانطلاق إلى سمره الليلي، حيث يمضي الوقت في تناول العشاء ولعب الورق والتدخين ومسامرات الحديث، بل وتعاطي الممنوعات، وكان يعود إلى بيته مع بزوغ الفجر وقد استبدت بروحه تهاويم غريبة لا معنى لها، وظلت هذه حاله سنوات يبددها كيفما اتفق مؤثراً الانصياع لأهوائه معتقداً أنها هي الغاية من الحياة وأن كافة الناس لا همّ لهم إلا بلوغ ضروب المتعة واللهو التي بلغها، ولكن دبيباً في قاع نفسه كان يخزّه ويحزّه كأنما بسكين، أشبه ما يكون بإنسان يعاتبه ويعذله على ما فرّط في دنياه، لعله ما يطلقون عليه (الضمير) لا غيره، فإذا كان الأمر كذلك فإن صوت ضميره كان صادحاً، يصخّ أذنيه ويشيع في عقله المكروب حزناً وقتامة، فهو يشعر بالفراغ يستبد بروحه ويعذبه كما لو كان عدواً مبيناً يروم الفتك به، ويلجأ أحياناً للبكاء عسى أن يطفئ الدمع احتراق روحه وينعش ظمأ حياته، إنه لم يعد يدري ما علته وما كنه هذا البلاء الواصب الذي حلّ به وأثقل على نفسه وألح عليها بالأذى، وقد توالت بوادره اللواذع تتتالى شيئاً فشيئاً حتى وصلت درجة لا يستهان بها، وبدأ يقلّل كمية أكله لفرط حزنه حتى عافه فما يأكل إلا لقيمات، وعزف عن لقاء أصدقائه رغم إلحاحهم الشديد، ونصحه شقيقه الأكبر بضرورة زيارة طبيب للكشف عن حالته، ووجد نفسه يوماً في حجرة طبيب نفساني وهو يعرب له عمَّا يحس به والعراك الذي يموج به باطنه، سرد له حياته فلم يخف شيئاً، وكان طبيباً ممتازاً استحثه لإبراز وجه حياته فأتاح له وقتاً ليعرض حالته ويظهر ما خفي منها، وهو يستمع إليه دون مقاطعة ريثما ينتهي من كلامه، فلما أنهاه قال الطبيب وهو يزوي حاجبيه.
حالتك واضحة لا غَمْضَ فيها، إنك ترى الدنيا بمنظار أسود كالح، فتعافها وتتكارهها، وتتمنى لنفسك السوء والموت، وهذا هو (الاكتئاب)، وعلى أن من حسن حظك أنه اكتئاب طارئ لا مزمن، وعلاجه سهل ولكنه يحتاج إلى تعاون من المريض ليفوز بالشفاء، وسأكتب لك على دواء مهدئ ومعالجة سلوكية، ومتى زالت أسبابه زال من تلقاء نفسه بإذن الله، فأعنّي على نفسك والتزم بالتعليمات الطبية.
ووجد نفسه بين أمرين إما أن يهِن ويستكين لهذا الداء فيقوده ذلك إلى مالا تُحمد عقباه، وإما أن يتشجع ويقاوم ويطيع مشورة الطبيب ويكون في هذا نجاته وتعافيه من هذا الداء الوبيل.
وعزم على أن ينفض عن نفسه الوهن والتراخي، وأن يتبّع وصايا الطبيب علّه يستنقذ نفسه من قبضة المرض اللعين، وقد استجاب لكل ما طلبه الطبيب وما أمر به، فكان يتناول الدواء المهدئ في موعده، ووجد السبيل ليتباعد عن رفقائه الأولين متعللاً بمعاذير شتى مخافة أن يعود سيرته الأولى معهم حتى يئسوا من لقائه، وسعى إلى إعادة ترتيب حياته بعيداً عن إغراء الدعة وترف الحياة التي كان يعيشها، نزل عن تلك الحياة المترفة وراح يسلك طريقاً مختلفاً آخر لا عهد له به، فاشترك في جمعيات خيرية لمساعدة المحتاجين، وانضم إلى مناشط وفعاليات يعود ريعها لصالح الفقراء، وقرر بغتة تسجيل اسمه بين طلبة القانون واستئناف دراسته، وفي خلال ذلك كان يتعرّف على أفراد ممتازين مفعمين حيوية وحماسة، وتواضعاً أيضاً، فالتمس صداقتهم ووصل أسبابه بأسبابهم، وقد شعر بنفسه تعود إليه وتنطلق من شفتيه ضحكات ناصعة نابعة من قلب متجدد مترع نقاء وغبطة، أحس أن طبقات متراكمة بعضها على بعض من الزيف والإدعاء والتشامخ الفارغ تنزاح طبقة بعد أخرى فيجد لذلك روْحاً وراحة، وها هي الحياة تفتح له ذراعيها بعد طول جهامة وانقباض، ومضى وقت والمرض ينكمش وينحسر ولكن مجرد التفكير فيه كان يرعبه ويسوّد لياليه، ولاحظت والدته أنه استعاد أرطالاً من وزنه كان قد فقدها، وعاد إلى وجهه رونقه وبهاؤه، حتى تجلى في آنق صورة، وراح في أويقات فراغه القليلة يتريّض في منازِه داره الفخمة، أو يعمد إلى ممشى قريب فيمشي فيه دراكاً ويقطع ما لا يقل عن فرسخ أو فرسخين، ثم يعود وقد أخذ منه التعب فيتهيأ للرقاد وقد تناهت حلاوة تعبه فاستطاب طعم النوم بعد إتعاب جسمه طوال النهار، وأدرك أنه أضاع سنوات من عمره فيما لا خير فيه، وإذا كان كسب شيئاً خلال تلك المدة المظلمة فهو تجربة أظهرت له خطر الفراغ ومِراء الأصدقاء وعُقم الشباب بلا عمل ولا أمل. ا.هـ
** **
- عبدالله الشهري