صدرت سيرة الدكتور مسعد بن عيد العطوي الذاتية «التحوّل» في طبعتها الأولى عن دار عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع بالأردن عام 2013م في 259صفحة، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 2014م عن الدار نفسها.
ويمكن القول: إن الدكتور مسعد أخذ الريادة بهذا العمل، فـ«التحوّل» أول عمل في السيرة الذاتية يصدر لأدباء شمال المملكة العربية السعودية، وجاء بعده كتاب «سنوات الجوف: ذكريات جيل» للدكتور عبدالواحد الحميد الصادر في عام 1439هـ/ 2017م.
والواقع أن الكتابة السيريّة تختلف كثيرًا عن الكتابة الإبداعية الأخرى إذ هي عمل يعيد إنتاج الحياة من جديد، ومن هنا يرى بعض نقاد السيرة الذاتية بأن «الكتابة عن الحياة الشخصية وهي تمثل السيرورة الفردية في سياقها العام، تعمل أيضًا على إنتاج حياة أخرى، يمكن تسميتها بالحياة النصيّة».
وأول ما يلفت النظر في عمل الدكتور مسعد العطوي، أمران: الأول: العنوان، والتجنيس، فهو اختار بدءًا عنوانًا بسيطًا، والعنوان البسيط هو المكوّن من كلمة أو كلمتين، ثم إن اختيار هذه الكلمة (التحوّل) لها حمولات مكثّفة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بجنس السيرة الذاتية إذ يرى بعض نقاد السيرة الذاتية أن من عوامل نمو فن السيرة الذاتية في البلاد العربية مراحل التحوّل التي عاشتها البلدان العربية، ويقصد بها التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
ويظهر وعي المؤلف بميثاق السيرة الذاتية، ومن هنا فقد وضع عنوانًا شارحًا للعنوان الرئيس، وكتب: التحوّل: سيرة ذاتية، وهذا الميثاق يسهم في تحفيز القارئ، ودفعه للقراءة، ويكشف شجاعة المؤلف بنسبة كل الأحداث إليه دون مواربة، أو ممارسة لعبة فنية بأن يترك القارئ في حيرة حول تصنيف العمل.
والميثاق في الواقع هو مصطلح ابتدعه فيليب لوجون، و»يعني به إقرار المؤلف إقرارًا صريحًا لا لبس فيه بأن ما كتبه هو صورة مطابقة لحياته، وبأنه هو راوي القصة التي أنشأها وهو الشخصية الرئيسية فيها، وبناء على هذا الإقرار يدعو المؤلف قارئه إلى التعامل مع النص على أنه سيرة ذاتية»، ويمكن أن يُعلن «عن هذا الميثاق عبر أشكال متنوعة، أهمها العنوان، والعنوان الفرعي»، ومن هنا فقد أعلن الدكتور مسعد عن ميثاق السيرة الذاتية بواحد من أهم الأشكال، وهو العنوان الفرعي الذي يقترب من أهمية العنوان نفسه كما ينص على ذلك «معجم السرديات».
ولكن ماذا عن دوافع الكتابة، وماذا عن مقصدية الكتابة؟ لا يكشف العمل صراحة الدوافع ولا المقصديّة من الكتابة، ويمكن اكتشاف ذلك ضمنًا إذ إن العمل يؤرّخ لحياة رجل كان أهله يعيشون في الصحراء ومعظمهم لا يعرفون القراءة والكتابة، ثم يشق طريقه في الحياة مكافحًا ومتدرجًا في العلم حتى نال أعلى الدرجات العلمية، ووصل إلى مجلس الشورى، ورئاسة النادي الأدبي في تبوك، ومن هنا فبعد أن تحققت له كل هذه التحوّلات بين ماضيه وحاضره رأى أن يدوّنها للأجيال القادمة، بوصفها قصة كفاح واقعية تصلح حافزًا لكل طموح راغب في النجاح.
ومما يؤكّد أن هذه التحولات هي المحفز له على الكتابة، ومن ثم إطلاق العنوان على سيرته، تكرار هذه الكلمة في غير موضع من الكتاب، ومن ذلك قوله عن قبيلته وأماكن وجودها بين الأردن والسعودية: «الواقع أن المرحلة مرحلة تحوّل بكل الأبعاد»، وقوله في موضع آخر عن أسرته وعن عمود كانت الأسرة تتوارثه: «كانت الأسرة تتوارث هذا العمود حتى إن الوالد والعم يذكرانه دائمًا، وفُقد أثناء رحلة التحوّل إلى الحاضرة والمعاناة والمآسي التي تنسي كل شيء»، وفي منتصف السيرة وأثناء انتقال عمله من تبوك إلى القصيم وبدء العمل في التدريس في الجامعة نراه يقول: «كان التحوّل جذريًّا فأنا انتقلت من بيئتي وبين أسرتي, أصحابي... وأخذت أتعامل مع بيئة جادة يصعب اختراقها» إلى أن يقول: «والتحوّل الآخر هو ممارسة التدريس في الجامعة، وهو محور الارتكاز..».
إذن يمكن وضع اليد على مقصدية كتابة السيرة الذاتية لدى الدكتور مسعد العطوي في كتابه «التحوّل» بأنه رصد للتحوّلات المهمة التي مرت بها أسرته من حياة البادية إلى حياة الحاضرة، وما شهدته هذه التحولات من جوانب نفسية ومعاناة اجتماعية للتأقلم مع حياة جديدة سريعة المتغيرات شملت أدوات الحضارة المختلفة من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وتعامل، وكذلك انتقاله وأسرته إلى مناطق مختلفة من المملكة.
وإذا كان بعض كتّاب السيرة الذاتية ينتقي من سيرته مرحلة أو مراحل فقط ويدوّنها، كتلك السير التي تقتصر على مرحلة الطفولة فقط كما فعل عبدالمجيد بن جلّون من المغرب في سيرته «في الطفولة»، أو على جانب من جوانب عمله أو إبداعه كما صنع غازي القصيبي في «سيرة شعرية» و»حياة في الإدارة»، فإن الدكتور مسعد العطوي يقدم للقراء سيرة ذاتية متكاملة تقريبًا: بدءًا من الطفولة، وحتى عمله رئيسًا للنادي الأدبي في تبوك، و»الواقع أن السيرة الذاتية ليست مجرد استعادة للماضي كما جرى؛ لأن ذلك لن يقوده إلا إلى الحديث عن عالم انقضى إلى الأبد، بل محاولة للبحث عن الذات من خلال تاريخها»، ومن جانب آخر فمؤلف السيرة الذاتية يجمع عناصر حياته الشخصية ويرتّبها في خطاطة جامعة، وعلى هذا فالسيرة الذاتية تعرض نفسها بوصفها برنامجًا «لإعادة بناء وحدة الحياة على امتداد الزمن».
ويمكن اختصار حياة الدكتور مسعد العطوي كما ظهرت في سيرته «التحوّل» في مراحل، وهي: الطفولة والنشأة في البادية، والتحوّل إلى حياة الحاضرة، والتعليم، والعمل في القصيم، ثم الانتقال إلى الرياض، ثم العودة إلى مسقط الرأس منطقة تبوك.
وعليه، ففعل الكتابة عن الذات هنا يصبح مرادفًا للتأريخ والتحقيب والتوثيق، ويتطور ويصبح سجلاً للأحداث والمواقف والتطورات التي تبدو للكاتب ذات أهمية مطلقة في التعريف بنفسه وبتجاربه والوسط الذي ينتمي إليه، فضلاً عن الأحداث العامة التي شارك فيها أو شهد عليها أو ساهم في صنعها، وهو ما نجده واضحًا كل الوضوح في هذا العمل الذي بين يدينا «التحوّل».
وقد اتكأ المؤلف على ضمير الغائب في الصفحات الأولى من العمل؛ نظرًا لبعد المسافة الزمنية بين رسم الشخصية ولحظة الكتابة عنها، وكأنه يكتب عن شخص آخر، فتحت عنوان «الطفل مسعد» كتب يقول: «ما انفك الطفل (مسعد) يصحب والده إلى ديوان المسامرة من بعد صلاة المغرب، وهو ما يُطلق عليه (الشق)، وهو جانب من بيت الشعر يكون فيه ساترًا بين النساء والرجال....، وكان الطفل وغيره من الأطفال يسجلون المشاهد كلها وقد انغرس في ذاكرته النداء من جماعة مقبلين».
ويفسّر بعض نقاد السيرة الذاتية، وفي المقدمة (جورج ماي) في كتابه الذائع الصيت «السيرة الذاتية» لجوء بعض كتّاب السيرة الذاتية إلى ضمير الغائب بأنه محاولة للتجرد في رواية الأحداث محاكاة للمؤرّخين، وأنها طريقة من الطرائق «لإحداث مسافة بين الموضوع والذات، أي بين المتحدَّث عنه والمتحدّث».
على أن الدكتور مسعد العطوي تخلى بعد ذلك عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم وهو يتحدث عن جوانب من العمل بين تبوك والقصيم والرياض؛ ولأنها انقضت سريعًا وجرت أحداثها وهو كبير ومدرك لكل تفاصيلها فقد رأى أن يقص الأحداث بضمير المتكلم فتحت عنوان «مرحلة التحوّل» نراه يقول: «كنت أتمنى وظيفة مدنية وكنت أرغب في الرياض أو أي مدينة من مدن المملكة ما عدا تبوك، وكانت فلسفتي في ذلك المحافظة على مستواي الثقافي وتطوير الفكر ومواصلة الدراسة العليا»، وفي موضع آخر من السيرة يقول بعد تعيينه في مجلس الشورى: «كان التحاقي في مجلس الشورى محور تحول في حياتي...، وكان معارفي في تبوك من سائر الشرائح الاجتماعية وقد تجلى سرورهم وغبطتهم باختياري في مجلس الشورى».
ونلحظ هنا إضافة إلى عدوله عن ضمير الغائب إلى المتكلم، الإلحاح على مفردة (التحوّل)، ومن هنا جاء عنوان السيرة ملتحمًا مع المضمون والهدف والأحداث.
كما نلحظ في السيرة في السياق اللغوي كثرة استخدام الفعل الماضي (كان) وما يُشتق منه مثل: (كنّا)، و(كانت)، و(كنتُ) في محاولة لاستعادة الماضي إلى لحظة الكتابة؛ مستندًا إلى الذاكرة، من نحو قوله: «كنّا مشحونين بالكرم واستقبال الضيوف»، وقوله: «كانت أول رحلة لي إلى الخارج عام 1389هـ»، وقوله: «كنتُ أختبر للماجستير فإذا أحد الموظفين يتصل بي..»، وقوله: «وكان من أكثر أعضاء النادي تفاعلاً الأستاذ علي آدم».
ومع أن العمل في مجمله ذكريات وحديث عن الماضي، فإننا لا نكاد نعثر على تردد في قص الأحداث وروايتها، والكتاب شبه خال من العبارات غير الجازمة مثل: على ما أتذكر، على ما أظن، ربما كذا، وهذا راجع في ظني إلى أمرين، أو هما معًا، الأول: قوة ذاكرة المؤلف وقدرته على استعادة الأحداث كما هي دون تردد، أو أنه كان يسجّل بعض أحداث حياته على شكل يوميات أو ذكريات أو أنه استفاد من بعض التقارير التي كتبها أثناء عمله الرسمي.
والحق أن الذاكرة تعدّ «مصدرًا مهمًا من مصادر التمويل السير ذاتي بالرغم من إشكاليتها المعروفة في ترتيب العلاقة بين المادة المتذكّرة وزمن التذكّر إذ إن زمن التذكر وتوقيته ومقصديته له علاقة وثيقة باستهداف المادة المتذكّرة، وهذه المادة المتذكرة هي الأخرى لا تمنح نفسها بسهولة ولا تضع واقعتها بين يديّ فعل التذكر كما هي أصلاً، فثمة الكثير الذي يتغيّر ويتبدّل ويتقنّع بفعل أسباب كثيرة تُسهم في جعل المادة المتذكّرة خاضعة لإعادة إنتاجٍ نوعية».
وتحفل سيرة الدكتور مسعد العطوي برصد العادات والتقاليد التي عرفها ومارسها في طفولته وفي شبابه، وهي تمثل حياة البادية أكثر من حياة الحاضرة، ومنها حديثه عن بعض العادات المرتبطة باستقبال الضيوف وإكرامهم، يقول متحدثًا عن نفسه بصيغة الغائب: «انغرس في ذاكرته النداء من جماعة مقبلين يقول لهم: غسّلوا على الرجال، فيقوم أحد الشباب ويدور عليهم بأباريق الماء فيغسلون أيديهم، ولبث الطفل حتى استمع إلى جلبة مقبلة، فإذا البعض يحملون على رؤوسهم الصحاف المملوءة بالأكل، وبعضهم يحمل قدورًا صغيرة فيها الأدم من المرق والسمن، ويقدم الضيوف أولاً، ثم من يليهم من كبار السن والوجهاء، ويقدمون بعضهم بعضًا في نظام متعارف عليه، فلا يقدم الشاب ما وجد كبير، ولا يقدم الطفل على شباب، فإذا تكاملوا على العشاء قال لهم صاحب الوليمة: (سمّوا)، فيبدؤون بالأكل، وهذه سنة حسنة جاءت في الجاهلية وفي الإسلام».
ويروي قصة فيها غرابة وطرافة إذ طلّق رجل زوجته؛ لأنها شربت القهوة قبل الرجال، ويذكر أن من العيب أن تصنع المرأة القهوة، يقول: «أما مجالس الرجال في الصيف فهي مدارس للتجارب والقصص وحكاية التاريخ وفض النزاع..، وهم يجتمعون كل فجر على قهوة في أحد البيوت ومتعارف عليها، وتسمّى (الشبّة) كل يوم عند أحدهم وهو ملتزم بإعداد القهوة صباحًا ثم بعد صلاة العصر ثم السمر الليلي، ويحضر كل الرجال وكل الشباب، وتأتي كبار النسوة للمجلس أحيانًا لتأخذ ثلاثة فناجين من القهوة، وعيب أن تصنع المرأة القهوة، والمرأة تأتي أكثر الأحيان حين انفضاض المجلس إما للخدمات وقت المغرب أو للصلاة، وحدث أن جاءت امرأة و(الشبّة) في بيتها، والناس يصلون المغرب وشربت لا تتجاوز الثلاثة فناجين كل فنجان فيه ربع الفنجان فقط، فلما انحرف زوجها من الصلاة قال لها: ماذا تعملين؟ قالت: شربت قهوة، قال: كيف تشربين وهي لم تُصرف على الرجال بعد، والعادة صب القهوة للرجال الضيوف أولاً، قالت: لم أعلم بذلك قال لها أنت طالق...، ثم ندم الرجل وسافر إلى ابن باز لعله يجد مخرجًا فأفتى بعودتها».
وربما كان إيراد هذه القصص مدعاة للتحليل وتفسير بعض الظواهر مثل عدد الفناجين الثلاثة، وما السر وراء هذا العدد؟ ولماذا يعاب أن تصنع المرأة القهوة؟ وغيرها من الجوانب التي يستطيع الدكتور مسعد مساءلتها وتعليلها.
ملحوظة: حذفت هوامش البحث اختصارًا، وفيما يلي أهم المراجع: التشكيل السيرذاتي: التجربة والكتابة، لمحمد صابر عبيد، والسيرة الذاتية لجورج ماي، والكتابة والوجود لعبدالقادر الشاوي، ومعجم السرديات لمجموعة من المؤلفين.
** **
د.عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري - أستاذ الأدب المشارك بكلية اللغة العربية بالرياض - نائب رئيس مجلس إدارة جمعية الأدب العربي