وإذا كان استخدام آلية الحوار بلغة منطقية متمكنة لمواجهة الفكر السلبي وسيلة مهمة ذات فاعلية إيجابية مؤكدة؛ فإنه لا بد أن يكون استخدام ذلك الحوار بصورة مؤسسية مجتمعية منهجية في المؤسسة التعليمية، بشكل أساس، وتحقيق متطلباته في منهجيتها؛ ليستفيد من تفعيله كل من الطالب، والمدرس والمدرسة، والأسرة، والمجتمع في بيئاته المختلفة؛ ولنستثمر ذلك التفعيل في مواجهة المشكلات الفكرية والدينية والاجتماعية والنفسية والأمنية، ولا بد من توسيع دائرة الحوار الوطني المجتمعي؛ بحيث يتجاوز مستوى فئة النخبة ليشمل جميع عناصر المجتمع ومستوياته المتنوّعة؛ وبخاصة المستوى الشعبي، كما أنه من المهم ألا نكتفي بما نقوم به، بشأن الموضوع، من اتفاقيات ومؤتمرات مع أهمية ذلك.
وإذا كان الحوار يعد من أبرز وسائل التواصل وأنجحها؛ لمعالجة المشكلة؛ فإن وسيلة هذا الحوار الوحيدة هي (اللغة) وفي مجتمعنا هي (لغتنا العربية ولسانها المبين).
كما أن من وسائلنا العملية المهمة في مواجهة المشكلة على مستوى التضليل الإعلامي، وسيلة الإعلام نفسه؛ (بشكل منهجي مدروس، ومنتظم، وبقوة ووضوح، وحرفية وفنية وجمالية وبلاغة لغوية عربية ذات بيان وتأثير)؛ لنحقق هدفين:
أ - نشر الحقائق والمعلومات الصحيحة، والعلم الشرعي، والفكر السليم.
ب - إنقاذ السذّج والجهلة من حبائل أولئك الذين يستهدفون عقولهم بالتوجيه الخاطئ، المضلل.
وهنا أيضاً، ومرة أخرى، ستكون (اللغة العربية) من أهم أدواتنا الإعلامية للوصول إلى (هدف تحقيق القدرة على التعلم والفهم).
ومن هنا فلا بد من تحقيق (القدرة اللغوية) لدى طرفي الحوار، ولدى طرفي (الرسالة الإعلامية)؛ وهما (المرسل والمتلقي)؛ ذلك أن اللغة هي المدخل الأهم والبوابة الجوهرية للعلم والمعرفة والتواصل؛ (فهي أم الصنائع)؛ ويتحقق ذلك بتقويتها، في كل الميادين والمستويات التعليمية وفي كل الموضوعات والمجالات؛ فهي أداة العلم الأساسية؛ (ووسيلة نقل الرسالة الإعلامية الإبلاغية وتلقيها؛ لإشاعة العلم الصحيح، والمعرفة الحقة؛ لتنمية القدرات العقلية، وتهيئة الظروف المناسبة لها، لتحدث أثرها الإيجابي الفاعل؛ لمواجهة، الجهل والجهالة، أخطر أعداء الإنسان.
نعم! لا بد من تقوية (فاعلية اللغة العربية) وتعميق تأثيرها في الفرد والمجتمع؛ لتحدث أثرها المطلوب، وتؤدي وظيفتها الجوهرية؛ ولأن مشكلة (الأمن الفكري) ومتعلقاته مسألة (اجتماعية) ولأن اللغة ظاهرة (اجتماعية) وجوهر الإنسان الاجتماعي في حقيقة طبيعته (جوهر معرفي علمي إدراكي)؛ ومن هنا فلا بد من التركيز على البدء من (اللغة أولا) ثم يجب ألا يغيب عن وعينا هنا أن (فهم الخطاب الديني بوصفه محور ارتكاز لموضوع الأمن الفكري) تمثل (اللغة العربية فيه الأداة الأهم الوحيدة؛ للفهم والاستيعاب للمسائل والقضايا والواجبات والتبعات) وبخاصة قضايا الدين والفكر، وتدبّر القرآن والسنة والشريعة، وفهم أحكامها؛ لأن اللغة العربية بخاصة، وهي لسان القرآن العربي المبين، ذات علاقة جوهرية بفهم الإنسان وإدراكاته العقلية والفكرية، لحقائق الدين الإسلامي. والتمكينُ اللغويُّ، بالنظر لهذه الحقيقة، يرفع درجة الوعي، ويرفع درجة الإحساس بالمسؤولية الفردية والاجتماعية، ويرفع درجة القدرة الإيجابية في العطاء والمشاركة لدى الفرد المواطن، والمسلم بعامة، ويجنبه الوقوع في فخ الخطابات الدينية الزائفة، والاتجاهات الضالة. ونستذكر في هذا السياق، رد الشافعي (للمنطق) بالنظر لمخالفته لقوانين اللسان العربي، وقوله:» ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس»؛ (- السيوطي؛ صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تعليق علي سامي النشار، مكة المكرمة- مطبعة الباز، ص 15. وانظر: سامي الصلاحات؛ فقه الواقع من منظور القطع والظن؛ نحو فقه سديد لواقع أمتنا المعاصر(بحوث ومناقشات الندوة الدولية الافتتاحية، مركز الأمير عبدالمحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية ، الشارقة،1424هـ، 2/199)..
وظاهرة الخلل الفكري، وما أفرزته من ظاهرة التكفير وما يتفرّع عنها، هي في أصلها مشكلة (تعلم وفهم وفقه وتدبر!)
وتعلّم العربية وتعليمها للجميع بطريقة صحيحة، هو السبيل الجوهري المحقق لفهم القرآن وتدبر آياته؛ لأن اللغة هي صانعة الفكر، أداةً وتصحيحاً وتعليماً وتقويةً وضبطاً؛ وإذا كانت نصوص القرآن، ونصوص السنة، هي أساس الهداية، وبيان الطريق المستقيم للحياة فكراً وسلوكاً، وإذا كان فهم تلك النصوص وتدبرها، (يعتمد تحديداً على معرفة اللغة العربية، والعلم بها؛ مفردات، وعبارات، وتراكيب، وأساليب، وأسراً ... إلخ) وهذا التمكّن العلمي اللغوي العربي هو الذي يضمن لنا سلامة الفهم والإدراك، ويجنبنا الوقوع في مزالق الفهم الخاطئ، أو المنحرف عن مراد النص، ودلالته المقصودة؛ ففهمنا هو الذي يشكِّل وعينا، ويسدد تدبرنا، ويوجه فكرنا وسلوكنا.
وإذا كان الأمر كذلك بشأن أهمية (سلاح العلم والفكر)؛ فإن اللغة بشكل عام، واللغة العربية بشكل خاص بالنسبة لنا نحن العرب المسلمين تمثّل - حين تكون حية قوية في حياتنا - الأداة الجوهرية الأساس في معركة تحقيق الذات والوجود والانتصار بكل ثقة ويقين؛ ولا ينبغي أبداً وليس من المقبول بحال النظر إلى موضوع تأثير اللغة العربية على أنه مشكلة ثانوية في سعينا لمعالجة مشكلات تخلّف العرب؛ بل يجب النظر إلى غياب تأثيرها، أو ضعفه في حياة الإنسان العربي سبب حقيقي وجوهري من أسباب واقعه المتخلف المتردي، وعودة ذلك التأثير في حياة الإنسان هو من أوليات الحلول الأصيلة المباشرة لتغيير واقع الأمة الأليم في جوانبه المختلفة بسبب أن الواقع اللغوي الضعيف في ذاته جزء من واقع الأمة المؤسف، وأيضاً بسبب أن ذلك الضعف اللغوي، ينعكس غياباً لوظائف اللغة في حياة الفرد والمجتمع والأمة وتعزيز الهوية واستثارة فاعليتها، وبسبب غياب عمق التأثير اللغوي وجوهريته الأصيلة في تنمية الإنسان المعرفية والفكرية، وتأهيله للسير في طريق النمو والتقدم والإبداع في شتى مجالات الحياة من حوله؛ وهنا يصبح الحل اللغوي محتلاً للمرتبة الأولية وليس الثانوية في مسار سعينا لتغيير واقعنا إلى الأفضل، وما لم نضع (الحل اللغوي بما في ذلك معالجة المشكلات الكثيرة التي تواجهها اللغة العربية) في مقدمة حلولنا ومعالجاتنا، فلن نحصل من سعينا طول عمرنا غير قبض الريح!
ومن هنا فإنه من الأهمية بمكان إعادة النظر بكل جدية واهتمام إلى وظيفة اللغة العربية في تعزيز هوية الأمة وتحقيق فاعليتها، وتعزيز أمنها الوطني فكرياً وثقافياً، وإعادة النظر في واقع اللغة العربية وما تواجهه من مخاطر تهدّد وجودها الفاعل في حياتنا، أو تضعف تأثيرها فينا، على الأقل. وللحديث صلة.
** **
- أ.د. محمد بن حسن الزير