المتنبي هذا الشامخ أبداًً الباسط ظله الأسطوري على كل العصور، الذي أضاف إلى ديوان العرب شعرًا تمتد قامته إلى جبين الشمس، عنده وحده كبرياء الحرف، كان عدوه اللدود ذاك الرحيل الأزلي، صادق الصهوة لأنه عشق الآتي، قضى عمره مغتربًا في الدنيا، ضاربًا في الأرض بحثًا عن المجد وسعيًا إلى الكمال والمال، لم يصل إلى غايته بل ظل في ظمأ دائم، لعل نفسه الأبية وطموحه الكاسر وأمانيه التي لا تحد دفعت به إلى الارتحال الدائم وصبغت شعره بمعاناة شديدة، نقرأ المرارة والحزن في أبياته، عاش في صراع مع الزمن ذاق مصائبه باكرًا إجحافًا وجحودًا أليس هو القائل:
أذاقَني زَمَني بَلْوَى شَرِقْتُ بها
لَوْ ذاقَها لَبَكَى ما عاشَ وانتَحَبَا
كان يعي ذاته الطامحة ويعي عبقريته وتفوقه على من حوله، كان الحسد ظلاًً له
وهكَذا كُنتُ في أهْلي وفي وَطَني.
إنّ النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا
كان يرى نفسه أعظم من شعراء عصره وممن سبقوه في الجاهلية
ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ
شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ
كان كثير التنقل في الصحراء بصحبة الشمس.
صَحِبَتْني على الفَلاةِ فَتَاةٌ
عادَةُ اللّوْنِ عندَها التّبديلُ
جعل الشمس فتاة لأن الزمان لا يؤثر فيها شابة لا تهرم، لم ينفك من مدح كافور الأخشيدي
أبا المِسْكِ هل في الكأسِ فَضْلٌ أنالُه
فإنّي أُغَنّي منذُ حينٍ وَتَشرَبُ
كان يطمح أن يجعله واليًا على صفد في بلاد الشام ليمتح من المال والشهرة.
لكن كافور حطم طموح المتنبي فهجاه، لا يكف عن التألم لفقدان اللسان العربي، حين رحل إلى شيراز لمدح عضد الدولة ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان.
كان يتألم لأن الحكم للأعاجم في أكثر أنحاء الدولة الإسلامية
وإنّما النّاسُ بالمُلُوكِ ومَا
تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُها عَجَمُ
لعل هذه النفس الأبية الطامحة الكاسرة تحطمت على يد فاتك الأسدي الذي قتله لهجاه بني ضبه ولم يشفع له بيته الشهير:
ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ
لقد مات تحت ظلاله.
** **
- عبدالله أحمد الأسمري