د. عبدالحق عزوزي
هناك سؤال نسأل عنه كثيراً في المحافل الجامعية والأكاديمية: هل يجب استنساخ التجربة الغربية في قضية الإصلاح في الوطن العربي؟ الجواب منذ البداية لا. فعندما نتحدث عن الإصلاح في الوطن العربي وضرورة إحداث تغييرات جذرية مستشهدين بتجارب مختلفة بما فيها تلك التي حدثت في التجربة الأوروبية، فإننا لا ندعو إلى استنساخ التجربة الأوروبية أو الدعوة إلى كره الدين أو إعلان موت الإله كما دعا إلى ذلك نيتشه، أو إلى مسيرة دينية أو اجتماعية، بل وحتى سياسية مطابقة لما عرفته الحضارة الغربية...فطبيعة الدين الإسلامي مختلفة تمام الاختلاف عن نوع الدين المسيحي الذي تبنته الكنيسة في القرون الوسطى في المجتمع الغربي حيث كانوا يعتبرون أنفسهم ظل الله على الأرض، وسلطتهم متأتية مباشرة من عند الإله، وحرصوا على السلطة والثروة معاً، إلى درجة أن الهجوم على نظام الإقطاع كان يعتبر هجوماً على الدين، لأنهم دخلوا في نظام اقتصادي إقصائي، كما أن أي نقد لمعتقداتها كان يعتبر كفراً صراحاً؛ فلما صنف كوبرنيكوس 1543- 1473 كتاباً يبرز فيه حركية الأرض ومركزية الشمس كفِّر، بل وكفِّر حتى من يقرأه، وعرف جاليلي (1642- 1564) نفس المصير حين دافع عن نظرية كوبرنيكوس وعن فكرة دوران الأرض، فتم طبعاً تكفيره وزج به في السجن إلى أن مات. فكانت الحصيلة لا إنسانية ولا تاريخية مع رجال الكنسية في تلك الفترات المظلمة في المجتمع الغربي، إذ جمعوا الجوانب المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ثوبهم الكنائسي، ومن انتقدهم فهو متآمر على الله وعلى قدسية الوحي، مما جعل المفكرين ينكرون الدين بأكمله، ويعتبرون الدين وأهله خديعة؛ ثم لما أصبح الدين رديفاً للاستعباد والاستبداد باسم الدين والقدر الإلهي، أضحى نفور الخاص والعام من الناس منه مسألة بديهية، ولعل ماكيافيلي لخص هذا كله حينما قال: «نحن مدينون للكنسية بما صرنا فيه من إلحاد». وأظن أن إمحاء الحدود بين الديني والسياسي في التجرية الغربية والطغيان الخرافي الديني كان بسبب الواسطة التي يظن رجال الدين الكنائسيون أنهم مختصون بها، أي أنهم صلة وصل بين العباد والخالق، أما الدين الإسلامي، فلا وصية لأي إنسان على الآخر، وعلاقة العبد هي علاقة مباشرة بينه وبين الله ولا يحتاج إلى وسيلة أو واسطة بشرية تمنحه صكوك الغفران أو تتوسط له بينه وبين خالقه، فلا مجال للمقارنة بين الوضعين، ولا مجال للوصاية الدينية أو با أسميها بالعبادة التوسطية التي عندهم في ديننا الحنيف، ولكن ما يمكن أن نعتمد عليه في سردنا لهاته الوقائع التاريخية، ليس هو تغييب الدين، والدعوة إلى الإلحاد، وإنما ضرورة استعمال العقل والحكمة في الحال والمآل، والحفاظ على ديننا الحنيف بالنفيس والغالي انطلاقاً من عدم زجه في السياسة أو زج السياسة فيه، وانطلاقاً من أصول واقعنا الديني وليس تنزيلاً أو استنساخاً للتجربة الغربية في علاقتها المرة بالكنيسة، وقد حددت شروط هذا الإصلاح العقلي في إطار كتاب ألفته في السنوات الأخيرة ودعوت إلى إصلاح شامل وإلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية عقلانية التنوير، والعقلانية الرشيدة والعقلانية النقدية ...
فالعلوم الإسلامية مثلاً دلفت نحو قُطب التقليد كما يكتب ذلك بحق زميلنا العلامة أحمد العبادي، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات المعنوية والمادية. فحين استُبدل واقع «قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك» (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع «صه! واخرس قاتلك الله!»، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلّص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان.
كما أن هناك إشكالاً نجده منساباً في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلّق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة.. ورمضان مبارك سعيد وكل عام وأنتم في ألف خير.