أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: معاني التقوى في قول الله سبحانه تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة/ 2].. قال الراغب في كتابه (جامع التفاسير): ((التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف)).. [أي الجعل].. ثمّ يسمّى الخوف تقوى؛ والتقوى خوفاً على تسمية المقتضي باسم المقتضى، والمقتضى باسم المقتضي. وفي التعارف حفظ النفس عن كل ما يؤثم. ولها منازل: الأول ترك المحظور؛ وذلك لا يتمّ إلا بترك بعض المباح مما يليه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)؛ وقيل (من لم يجعل بينه وبين محارم الله ستراً من حلال فحقيق به أن يقع فيها)؛ فقوله [سبحانه وتعالى] تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة/ 27].. (أي بمعنى التاركين): أي التاركين للمحظورات.. وقال [سبحانه وتعالى]: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة الأعراف/ 35]، وقال [سبحانه وتعالى]: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [سورة النحل/ 128]؛ فجعل المتّقي في الآيتين غير المصلح والمحسن.. والثاني من منازل التقوى: أن يتعاطى الخير مع تجنّب الشرّ؛ وإياه عنى اللّه سبحانه تعالى بقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [سورة الزمر/ 73].. والثالث من المنازل: التبرؤ من كل شيء من القنيات (أي ما يقتنى من المحاسن كاللباس الفاخر)؛ والجاه والأعراض، وهو المعني بقوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [سورة آل عمران/ 102]، وما وعدناه ربّنا سبحانه وتعالى إيّاه بقوله [سبحانه وتعالى]: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [سورة محمد/ 17]، ورجّاناه إيّاه بقوله [سبحانه وتعالى]: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الأنعام/ 51]؛ فهذه المنازل مرتّب بعضها على بعض؛ وقد فسر قوله سبحانه وتعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}؛ فقيل عني به التاركين محارم الله. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: عني به الخائفين عقوبته، الراجين رحمته.. وقال بعض المتقدمين: معنى {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}: أي وصلة للمنقطعين إليه [أي إلى الله سبحانه وتعالى] عن الأغيار الذين نزع عن قلوبهم حبلشهوات [هذه العبارة الأخيرة مشكلة]؛ فهذا نظر منهم إلى الغاية. وروى الإمام الفحل (ابن جرير الطبري) في تفسيره بإسناده إلى الحسن -رضي الله عنه- قال: للمتقين: اتقوا ما حرّم عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم. وأسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوله: الذين يحذرون من الله -عز وجل- عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به. وأسند عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - أنّ المتقين المؤمنون. وأسند إلى الكلبي قوله: الذين يجتنبون كبائر الإثم، وأسند إلى قتادة قوله: هم من نعتهم الله ووصفهم فأثبت صفتهم؛ فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [سورة البقرة/3]. وأسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (للمتقين): للمؤمنين الذين يتقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.. ثم علّق الإمام ابن جرير -رحمه الله تعالى- بقوله: وأول التأويلات بقول الله جل ثناؤه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه؛ فتجنبوا معاصيه، واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه؛ فأطاعوه بأدائها؛ وذلك أنّ الله - عز وجل - وصفهم بالتقوى؛ فلم يحصر تقواهم إيّاه على بعض ما هو أهلٌ له منهم دون بعض؛ فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله -عز وجل- دون شيء إلا بحجّة يجب التسليم لها؛ لأنّ ذلك من صفة القوم لو كان محصوراً على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها.. لم يدع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده: إما في كتابه، وإما على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وإذ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى فقد تبيّن إذن بذلك فساد قول من زعم أنّ تأويل ذلك: إنما هم الذين اتقوا الشرك، وتبرّؤوا من النفاق؛ لأنّه قد يكون غير مشرك ولا منافق.. إلا أنّه فاسق غير مستحقّ أن يكون من المتقين.. وعند بعضهم يكون النفاق بمعنى الفسق؛ وهو ركوب الفواحش التي حرمها الله -جل ثناؤه- وتضييع فرائضه التي فرضها عليه، وحينئذ تكون التقوى بمعنى مخالفة الفسق. وتكلم الإمام (ابن فارس) في كتابه (مقاييس اللغة) عن مادة (وقى)؛ فقال عن معناها الأصلي الجامع: تدلّ على دفع شيء عن شيء بغيره. واتّق الله توقّه.. وقد بينّ الجوهري كيفية اشتقاق (اتّقى) من (وقى).
قال أبو عبدالرحمن: والآن أقف بكم بعض الوقفات: الوقفة الأولى أنني استقرأت استعمال العرب لكلمة التقوى والوقاية؛ فاتضح لي أنّ الوقاية في معناها الـحسّيّ حاجز يوضع على الشيء؛ ليصونه ويمنعه من أذى شيء آخر كالشمس، وثقل الحمل، أو كون المحمول ذا حد؛ فوقاه إذن بمعنى جعل له وقاية تقيه، وتقىً هو جعل نفسه تحت وقاية.. والتقوى هي اسم لحالة فعل الاتقاء.. هذا هو المعنى اللغوي للتقوى دون اختلاف أو تكلّف.. أمّا ما تكون التقوى بسببه، وما من أجله توضع الوقاية: فليس هو من معاني التقوى لغة، وإنّما هو مراد المتكلم، ومدلول الشرع، واجتهاد الحسّ، والعقل يعرف بالبرهان لا بنقل أهل اللغة غاية؛ ولكن ما هنالك أنّه كلما ثبت بالبرهان أنّه يجب التصوّن عنه فإنّ التصوّن عنه يسمّى تقوى.
فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى. والله المستعان.