د. محمد بن إبراهيم الملحم
كنت أود أن أكتب عن ثقافة الاختبارات وأحببت أولاً أن أعلق على تعبير «الامتحانات» وهو تعبير سائد في الرعيل الأول، ذلك الجيل الذي كانت الدراسة بالنسبة لهم معرفة وثقافة وزاد للحياة لا مجرد محطة للشهادة وطريق للوظيفة فقط، ولذلك كانت «الاختبارات» بالنسبة لهم امتحانًا حقيقيًا، ثم ترك استخدام هذه الكلمة على المستوى الرسمي واستبدلت بـ»اختبار» وهنا رأيت أن أقدم تصورًا لغويًا حول هذين المصطلحين (امتحان - اختبار) اللذين يستخدمهما الناس بشكل متكرر ومتساوٍ دون تفرقة بين المعنيين مع تعليق إسقاطي لهذين المعنيين على الواقع النهضوي.
أولا الامتحان مشتق من المحنة وهي البلاء وهي كلمة ثقيلة ودلالاتها النفسية عميقة، ولذلك استبدلت في العهود الأخيرة إلى اختبار تلطيفًا لمعناها ومحاولة لدفع رهاب الموقف الاختباري عن الطلاب كتصرف تربوي مهم لصالح حياد وظيفة الاختبار وتنقيتها من المؤثرات النفسية، فهو يهدف إلى «قياس» معارف، ومهارات لا إلى التعرف على قوة التحمل النفسية للطالب، وثانيا «الاختبار» يفترض أنه مشتق من الفعل اختبر وهو يفيد معنى الحصول على الخبر ولم يرد شرحه فيما أعلم إلا في معاجم اللغة المعاصرة ولكن اللافت في الأمر أن معجم اللغة العربية المعاصرة وصفه بأنه امتحان فيقول: «اختبرَ يختبر، اختبارًا، فهو مختبِر، والمفعول مختبَر، اختبر الشَّخص: امتحنه «اختبره في القراءة/ الكتابة/ القيادة، واختبر اللهُ النَّاسَ: ابتلاهم امتحانًا لقوّة إيمانهم»، أما المعاجم السالفة وأبرزها لسان العرب فلم تتضمن هذه المفردة «اختبار» وإنما تضمنت استخبار فيقول في لسان العرب: «الاسْتِخْبارُ والتَّخَبُّرُ هو السؤال عن الخَبَر» ولذلك ترجم بعض الباحثين العرب كلمة test إلى استخبار وليس اختبار وأنا شخصيًا أميل إلى هذا الرأي ولكن مع الأسف شيوع المصطلح تغلب على سلامة المعنى فاحتلت مفردة «اختبار» الساحة ولم يعد سهلاً التخلص منها.
القضية الأساس هنا وبعد أن وضحنا الفرق اللغوي بين المصطلحين (وبالتالي دلالاتهما النفسية) ما هي حقيقة اختباراتنا اليوم: هل هي «استخبار» بمعنى طلب الخبر والحقيقة ومعرفة خبر ما يملكه الطالب من المعرفة أو هي امتحان بمعنى ابتلاء لتمحيص المتمكن من غير المتمكن؟ بل من جهة أخرى يبدر تساؤل مهم، هل نعيش نحن كلنا كمجتمع ومؤسسات واقتصاد «معرفي» امتحانًا حقيقيًا موضوعه الاختبارات؟ وأعني بهذا السؤال الفلسفي قليلاً هو إلى أي مدى تمثل الاختبارات لمجتمعنا واقتصادنا تحديًا نهضويًا؟ وهل هي حجر الأساس في المنظومة التعليمية؟ اختباراتنا بالأمس وفي عهود سابقة منذ بداية التعليم وحتى قبيل ثلاثين سنة مضت كانت نوعًا واحدًا تقريبًا وهي اختبارات التحصيل التي تقيس مدى ما حصّله المتعلم من المعرفة والمهارات كنتيجة لتلقيه العلم في المدرسة، وتستوي في ذلك جميع أنماط تلك الاختبارات أي التي يقدمها المعلم أو تقدمها الوزارة سابقًا، واليوم ظهرت أنواع جديدة من الاختبارات تمثلت في اختبارات الاستعداد المدرسي (القدرات) واختبارات الكفايات ومؤخرًا الاختبارات الوطنية المعيارية (المركزية) وهذه جميعًا تختلف في هدفها وأسلوبها وفلسفتها عن الاختبارات التحصيلية، والسؤال المحوري هنا هو حول «امتحان الاختبارات» الذي عشناه ونعيشه فهل نجحنا فيه سابقًا بنماذج الاختبارات التحصيلية فقط وهل سننجح فيه في مستقبلنا مع أنواع الاختبارات الجديدة، سأناقش ذلك أكثر بإذن الله.