د.ثريا العريض
ظهرت قبل سنوات نظرية غريبة تدعي أن للكلمات ألوانًا خاصة، وأن بعض الناس يرون لونًا بعينه عند سماع كلمة بعينها, ولا علاقة للون بمعنى الكلمة، فكلمة «ثلج» مثلاً لا ترتبط باللون الأبيض. شخصيًا لا أستطيع تأكيد نظرية ألوان الكلمات، ولكني أكاد أجزم أن للكلمات رائحة ومذاقًا. كلمة «بحر» مثلاً تحمل لمخيلتي رائحة الرمل المالح والطحالب البحرية. كلمة «زهور» لها نفحات عطرية مفضلة, وكلمة «بهار» تحمل لي العبير اللاذع للزنجبيل والهيل والدارسين.
في ذاكرة طفولتي كان لحلول شهر رمضان معنى يختلف عن معناه عند الكبار مرتبطًا بالعبادات والصيام وقراءة القرآن. كان يعني بهجة متوقعة وأفراحًا قادمة. وكان لقدومه قبل إعلانه علامات وإرهاصات بأن الفترة الزمنية القادمة تحمل متوقعات وتغيرات في نظام الحياة اليومية غير المعتاد.
الاستعداد للشهر المميز يبدأ من شعبان بانشغال والدتي بخياطة ملابس العيد, وتذكيرها لوالدي بقرب موعد شراء معدات رمضان. وستتوالى بعدها أيام عدة وهو يأتي كل يوم محملاً بجزء من هذه المتطلبات السنوية: هذه لم تكن تشمل الأطعمة أو مكوناتها, حيث تلك تضمها قائمة أخرى ستأتي لاحقًا قبل نهاية شعبان؛ أما البدء فكان يعني شراء وتحضير عموم المعدات المنزلية الضرورية للمطبخ، ومتطلبات التقديم والإهداء من الصحون الكبيرة والعميقة والصواني والأطباق والكؤوس، وأكواب الشاي ودلال وفناجين القهوة. يحتفظ بكل هذه الإضافات الجديدة جانبًا حتى يحل الشهر فتصبح مجازة للاستعمال. ثم يأتي دور الأطعمة بدئًا بالمواد الجافة الرئيسة؛ الرز الهندي, والشعيرية الإيطالية, والقمح لعمل حب الهريس والجريش وأنواع الطحين المطلوب للمعجنات والسمبوسة؛ والحبوب الثانوية من بقول الحمص والعدس والماش الصيني. ثم تنكة السمن البلدي وقوارير ماء الورد وعصير الرمان وقمر الدين المجفف, وقوارير ضخمة من ماء اللقاح لإضافة نكهة مميزة إلى ماء الشرب, وانتهاء بالبهارات من الهيل والدارسين والكركم والكمون والكزبرة والفلفل والليمون الأسود. وسيتيح كل هذا فرصة للوالدة أن ترينا نحن البنات كيف تنقى الحبوب من الأحجار الصغيرة, وتنظف البهارات وتعد للاستعمال. وكان طلبها مساهمة أصابعنا الصغيرة في المساعدة يشعرنا بأهميتنا وبقيامنا بدور مسؤول في نشاطات رمضان.
ومشاركة الجيران والأصدقاء والأهل بما نعد للإفطار عادة رمضانية محببة يشترك فيها الجميع, لتصبح كل الموائد في كل البيوت عامرة بلذائذ الثريد والمرق والكباب والسمبوسك وأنواع الحلويات وصحن الهريس الرئيسي. تصف الصحون في الصواني وتغطى بشرشف خاص فوق أغطية الأطباق ونحملها فرحين إلى بيوت المقربين على أن تصلهم قبل انطلاق المدفع، يُعلن الأفطار ويتعالى أذان المغرب. وتوازن السواعد الصغيرة صواني الإهداء على رؤوسنا تتصاعد منها روائح رمضان اللذيذة؛ الخبيص واللقيمات وخبز التاوة بالزعفران.. والهريس سيد صحون رمضان الكريم.