د. محمد بن عبدالله الغيث
للوهلة الأولى يتبادر للذهن أن صياغة وحماية الأمن الوطني الشامل هي وظيفة تقليدية تقوم بها أجهزة المخابرات والمباحث العامة في البلد المعني. كما يتبادر للذهن أن إدارة تلك الوظيفة ترتكز على جمع وتحليل وعرض البيانات التي تسبب خللاً مباشراً أو غير مباشر لأمن الدولة بمؤسساتها التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والرقابية. هذا المفهوم المحدود للأمن الوطني في الواقع لا يمتد لتوفير وحماية أمن الدولة بالمفهوم المعاصر لعبارة الأمن الوطني الشامل.
وبتوسع مفهوم الدولة الحديثة ليشمل الرباعي المكون لها والمتمثّل في القطاع العام، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني غير الربحي، والإعلام والاتصالات والتقنية في المجتمع. وبالتنسيق بين مكونات وجهود ومصالح هذا الرباعي لخدمة أمن وسلامة ومصلحة الفرد مروراً بخدمة أمن وسلامة ومصلحة المجتمع والوطن ككل، فإنه يتضح لنا أن هناك آفاقاً وأبعاداً أخرى مستجدة للأمن الوطني الشامل تشكّل وتوجه مفهومه وصياغته وإستراتيجيته وإدارته كما سيتم التطرق له بهذه المقالة.
أركان وحلقات الأمن الوطني
كان ولا يزال مقياس مدى توفير وحماية الأمن الوطني هو مدى إدراكنا وتحديدنا لمفهوم ومكونات المجتمع والقطاعات التي يتشكّل منها، أي الأركان التي يقوم عليها المجتمع وتشكّل أنماط حياته بجوانبها المتعددة الاجتماعية والصحية والاقتصادية والسياسية والأمنية والإدارية والقانونية وغيرها. وبقدر مفهومنا للمجتمع ومصالحه وأركانه التي يقوم عليها ومكونات تلك الأركان التي سوف نسميها حلقات، يكون مدى كفاية أو عدم كفاية توفر الأمن الوطني الشامل الذي نتطلع إليه ومدى كفاءة وفاعلية ذلك الأمن.
ومن العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤثِّر بكفاية أو عدم كفاية الأمن الوطني وشموله وفاعليته توفر أو عدم توفر الموارد الطبيعية والبشرية والخبرات المتقدمة في التخطيط والتنفيذ والتقييم والتطوير. هذا إلى جانب توفر الأمن الغذائي والصناعات الأساسية وتقنيات المعلومات والاتصالات المتقدمة ومدى توطين أو استجلاب تلك الموارد في البلد المعني. ومن العوامل المؤثرة بمستوى فاعلية الأمن الوطني مقدار ما وصل إليه المجتمع من المرونة والانفتاح في أساليب الحكم ومؤسساته وحرية الرأي والتعبير والتعاملات التجارية والدولية المبنية على تبادل المصالح والمنافع. ونعني بذلك الاستفادة من إبداع أركان وحلقات مكونات المجتمع التي ينبغي أن يغطيها الأمن الوطني الشامل والتي سوف نتعرض لها بشي من التفصيل. هذه الأمور مجتمعة تؤثّر في صياغة الأمن الوطني الشامل كما تؤثّر في الإدارة الفاعلة له بما يحقق أهدافه وأغراضه ضمن إستراتيجية واضحة المعالم والسياسات.
المجتمع الحديث يتكون من ويقوم على أربعة أركان هي: ركن القطاع العام (المعروف بالحكومي)، وركن القطاع الخاص ( المعروف بقطاع الأعمال)، وركن قطاع المجتمع المدني غير الربحي، وركن قطاع الإعلام والاتصالات والتقنية (أنظر الشكل رقم (1) قائمة أركان وأبرز حلقات المجتمع الحديث). وفيما يلي سوف نتطرق لمفهوم كل ركن من هذه الأركان الأربعة والدور أو الأدوار التي يقوم بها لنماء وتطور المجتمع.
ركن القطاع العام هو مجموعة الدوائر والمؤسسات والدواوين التي تنتظم وتشكل الدولة بمؤسساتها التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، والرقابية. هذا الركن يعنى بتدبير موارد الدولة وتمويل نفقاتها، وتوفير الأمن، وحماية حدود ووحدة البلاد، والرعاية الصحية، والتعليم وغيرها. كما يعنى ركن القطاع العام بالدفع باتجاه التعايش والتوافق بين مختلف الفئات والطوائف، ونشر العدل، والفضيلة، والرفاه، وحماية حقوق الإنسان، وزيادة فرص التوظيف، وخفض معدلات البطالة في المجتمع. ويعنى ركن القطاع العام بتوفر كفاءة وفاعلية الأداء داخل وبين حلقاته التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والرقابية. كما يعنى بسلامة تلك الحلقات من الفساد الإداري والمالي، والبعد عن ممارسة الواسطة والمحسوبية والتفرقة في المعاملة بين أفراد المجتمع والمقيمين على ترابه.
ركن القطاع الخاص: هو مجموعة الأفراد والمؤسسات والشركات التي تمتلك و/ أو تدير الأعمال الربحية في المجتمع من تجارية وزراعية وصناعية ومهنية وتقنية وغيرها. هذا الركن من المجتمع يتكفل بصياغة وانسياب الاتصالات والمعلومات وبناء قنواتها الموصلة بين الحلقات التي يتشكل منها ركن القطاع الخاص مثل حلقة التجار، وحلقة الزراع، وحلقة الصناع، وحلقة المهنيين، وحلقة التقنيين، وحلقة الموردين، وحلقة المصدرين، وحلقة المسوقين. كما يتكفل ركن القطاع الخاص والغرف التجارية والصناعية فيه وهيئات حماية المستهلك بتقنين وحوكمة القضايا التي تنتظمها حلقاته، وحماية الحقوق والتأكد من أداء الواجبات داخل وبين تلك الحلقات. وإلى جانب ما تقدم يعتني ركن القطاع الخاص بحماية أسواقه من المنافسة الجائرة الداخلية والدولية مثل الإغراق التجاري، والغش التجاري، والتلاعب بمواصفات ومقاييس الإنتاج.
ركن قطاع المجتمع المدني غير الربحي: هو مجموعة الأفراد والجماعات والمؤسسات والهيئات المرخصة في المجتمع التي تتولى القيام بالأعمال الخيرية والتطوعية والإنسانية لمن يحتاجونها بدون مقابل. هذا القطاع ينشط في أوقات الحروب والكوارث والأزمات التي تحل بالمجتمع. وتشمل نشاطات ركن المجتمع المدني غير الربحي الإنقاذ، والإيواء، وخدمات الإسعاف، وتوفير الخدمات الاجتماعية، والتعليمية، والصحية للمحتاجين. وبقول آخر فإن ركن قطاع المجتمع المدني غير الربحي إنما هو قطاع مساند لأجهزة ركن القطاع العام وأجهزة ركن القطاع الخاص الرسمية وذلك ضمن حلقات منها حلقة الإنقاذ والإيواء، حلقة الإسعافات والعلاج والدواء, حلقة توفير الغذاء والكساء، حلقة التعليم، وحلقة إعادة البناء النفسي لضحايا الحروب والأزمات والكوارث الطبيعية والمجاعات.
ركن قطاع الإعلام والاتصالات والتقنية: هو ركن خدمي هام يقدم الدعم والمساندة لأركان المجتمع الأخرى ويتقاطع معها عبر الاهتمام بحلقات تزيد من كفاءة وفاعلية الأداء بتلك الأركان. وأبرز هذه الحلقات حلقة توفر الكفاءات والمهارات الإعلامية المتقدمة، وحلقة توفر كفاءات إدارة الاتصالات الحديثة ، وحلقة توفر التقنيات المتطورة وعلومها، وحلقة توفر إستراتيجيات وخطط وجود إعلام وإعلاميين واتصال متقدم ومنافس في البلاد، وحلقة توطين وتطوير تقنيات الإعلام والاتصال في المجتمع. ركن قطاع الإعلام والاتصالات والتقنية يقوم إذن بدور العمود الفقري والقاعدة التي تنطلق منها نشاطات الأركان الأخرى في المجتمع وذلك عن طريق الإعلام، والإعلانات التجارية، والدعاية، وتبادل وتوصيل المنتجات والخدمات التي تحفز المستهلكين وتوجه المسارات الاستهلاكية والادخارية والاستثمارية عندهم. كما أن ركن لإعلام والاتصالات والتقنية يخدم ويسهل التبادلات التجارية والخدمات وانسيابها في المجتمعات المحلية والإقليمية وعبر القارات.
الترابط بين تطور المجتمعات الإنسانية وتبدل مفاهيم الأمن الوطني
تطورت المجتمعات الإنسانية من العصر البدائي إلى الحجري إلى الزراعي إلى الصناعي ثم التقني الاتصالي. وكل عصر من تلك العصور التي مر بها المجتمع كان للأمن الوطني دور يلعبه ويتشكل ويصاغ طبقاً لمكونات المجتمع وفلسفته وثقافته وتطلعاته والإمكانات المتاحة له للعيش والبقاء. ففي العصر البدائي كان الأمن الوطني ذاتي لصيق بالأفراد والعائلات ويركز على حماية أمنها المتمثّل باحتياجاتها الفسيولوجية الأساسية مثل المسكن، والمأكل، والمشرب، والنوم، وما تقتات عليه من مصادر الطبيعة. وفي العصر الحجري الذي لم يختلف كثيرا عن سابقه البدائي أو التكويني فيما عدا تجمعات بعض الأسر ونشوء المستوطنات البشرية واستخدام الحجارة لتوليد الطاقة التي بالكاد تكفي للطهي والدفء كان الأمن الوطني في هذه المرحلة يقوم على حماية العلاقات القائمة بين تلك التجمعات الأسرية والاستيطانية وتحذيرها من تعديات تجمعات أخرى قد تتعرض لها. وبسبب غياب الحدود الجغرافية بين التجمعات والمستوطنات آنذاك فإنه يمكننا القول أنه في العصرين البدائي والحجري لم يكن هناك أمن وطني بالمفهوم الحاضر للعبارة، بل كان هناك وسائل بسيطة وبدائية لحفظ الأمن تتمثَّل في الرقابة والاستطلاع المباشر والحراسات.
وفي العصر الزراعي بدأ ظهور التوطن في المجتمعات الإنسانية، والتملك الفردي والجماعي بشكل يختلف عن العصرين البدائي والحجري، كما بدأ ظهورالتجارة والاقتصاد التبادلي العيني بدون عملات نقدية. في هذا العصر الزراعي بدأ الأمن الوطني يقوم على رعاية وحماية أكثر من مسرح وأكثر من قطاع في النطاق الزراعي الذي يحكم المجتمع آنذاك. وهكذا فإنه في العصر الزراعي الذي بدأت تتبلور فيه بدايات ظهور وانبلاج الإقطاعيات التي شكلت البدايات الأولى للحكومات الرسمية، والتي صاحبها بدايات رسم الحدود وتوثيق الانتماءات الوطنية، في هذا العصر الزراعي بدأ الأمن الوطني في الاضطلاع بمفاهيم ومسؤوليات أوسع وأكثر تعقيداً.
وفي العصر الصناعي الذي كان أساسه اختراع الآلة البخارية واكتشاف المناظير والتلسكوبات وتوليد الطاقة الكهربائية من مساقط المياه، بدأ الأمن الوطني يظهر بمفهوم أعم وأشمل، وصارت له إستراتيجيات تحكمه ويستند إليها. كما أصبحت تخطط له وتديره كفاءات عالية التخصصات ومتنوعة القدرات والمواهب. ولم يعد الأمن الوطني في العصر الصناعي يقتصر على حماية مجتمع زراعي محدود التطلعات ومحلي التعاملات والعلاقات، بل أصبح يتعامل مع مجتمعات صناعية تتصف بالديناميكية وسرعة الحركة وتوسع الرؤية والجنوح للتعاملات الكبيرة والتبادلات التجارية المتنوّعة محلياً ودولياً. تحدث هذه التبدلات في تركيبة وتكوين المجتمعات وبالتالي تمتد لتؤثر في تكوين وأدوار منظمات الأمن الوطني بسبب مساهمة الثورة الصناعية في إحداث طفرة عارمة بوسائط النقل في البر والبحر والجو بما تسبب في تقريب المسافات وربط العالم بعلاقات تجارية تقوم على مبدأ الوفرة والتخصص في الموارد والإنتاج والتبادلات التجارية.
وفي العصر التقني الاتصالي الذي تعيشه المجتمعات في الوقت الراهن تزايدت مكونات المجتمع وتنوعت تطلعاته وتشعبت علاقاته الداخلية والخارجية ولم يعد مجتمع من المجتمعات يستطيع العيش بمعزل عن بقية العالم. هذا التطور في تطلعات وعلاقات المجتمع أحدث ويحدث نقلات وتغيرات في مفهوم وأدوار ومسؤوليات مؤسسات ومراكز الأمن الوطني في مختلف البلاد المتقدم منها والنامي وإن بدرجات متفاوتة. لم يعد المجتمع في العصر التقني الاتصالي، أو ما نسميه عصر الثورة الخامسة، يقتصر في إنتاجه وتعاملاته مع المجتمعات الأخرى على المنتوجات التقليدية من وقود الفحم والأغذية والأدوية والسيارات والطائرات والقطارات وما يماثلها.
الواقع أن إمكانات المجتمع وقدراته الإنتاجية والتسويقية تقدمت في الكم والكيف لتشمل أنواعاً وأنماطاً أخرى جديدة من المنتجات والتجارة منها صناعة الأدوية والمعدات الطبية الحديثة، وصناعة الأسلحة المتقدمة ، وصناعة وتبادل الإلكترونيات ذات الدقة وصغر الحجم والحساسية المتناهية مثل تقنيات النانو، والأقمار الصناعية، والمركبات الفضائية، والصواريخ عابرة القارات برؤوسها النووية ذات التدمير الشامل. وما كانت أبداً مؤسسات ومراكز الأمن الوطني تعيش بمعزل عن هذه التطورات المتلاحقة والسريعة في المجتمع، بل كانت تتابعها وتستوعب ما يصاحبها من آثار على مكونات الأمن الوطني ثم تقوم بما تستدعيه تلك المتغيرات والمستجدات من تغيير وتجديد في إستراتيجيات وهياكل وخطط وأساليب إدارتها للأمن الوطني. ويحدث ذلك بأجهزة الأمن الوطني بمختلف الدول بوجه عام وفي الدول المتقدمة منها بوجه خاص.
بناء إستراتيجيات وإدارة الأمن الوطني المعاصر
1- الإستراتيجية هي رؤية حالية و/ أو مستقبلية بإطار شامل لتحقيق موضوع محدد أو تطلع معين ذو أهمية للكيان المؤسسي سواء كان الكيان جزئياً كالقطاع أو الوزارة أو الشركة أو المؤسسة أو كان كليا كالحكومة أو الدولة. فيقال مثلاً إستراتيجية القطاع العام، أو إستراتيجية القطاع الخاص، أو إستراتيجية وزارة التعليم، أو إستراتيجية النفط في المملكة العربية السعودية أو روسيا أو العراق، أو الإستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية في العالم. وفي الغالب فإن الإستراتيجية تضم وتتفرّع إلى حلقات إستراتيجية متخصصة إما جغرافياً أو مهنياً أو قطاعياً أو بحسب طبيعة ومتطلبات كل حلقة منها.
فمثلاً الإستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية تتفرَّع إلى حلقات منها أمن الولايات المتحدة في الكاريبي، وأمنها بمنطقة الشرق الأوسط، وأمنها في البلقان ودول التجمع الأوروبي، وأمنها بمنطقة شرق آسيا التي تضم الكوريتين وتايوان واليابان وبحر جنوب الصين. ومثال آخر على تفرع الإستراتيجية إلى حلقات متخصصة - موضوعاً وجغرافيا - أن يقال إستراتيجية السعودية الأمنية العربية، وإستراتيجيتها الأمنية الإسلامية، وإستراتيجيتها الأمنية الخليجية، وإستراتيجيتها الأمنية تجاه إيران وتطلعاتها التوسعية في دول الجوار، وإستراتيجيتها الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وإستراتيجيتها الأمنية مع روسيا والصين، وإستراتيجيتها الأمنية تجاه المنطمات الإرهابية والإرهاب العالمي. كما يقال الأمن السياسي، والأمن الاقتصادي، والأمن الاجتماعي، والأمن الإداري، والأمن المعلوماتي «الأمن السيبراني»، كحلقات من الإستراتيجية الأمنية. ونفس القول ينطبق على الإستراتيجيات الأخرى غير الأمنية بمختلف صنوفها وآفاقها.
وتختلف الإستراتيجية عن الخطة في أن الإستراتيجية تقود وتوجه الخطة أو الخطط والعكس ليس بالضرورة صحيحاً. والمثال الجيد والحديث على الإستراتيجية المتكاملة هو رؤية المملكة العربية السعودية الإستراتيجية الشاملة للتنمية والتغيير المعروفة برؤية 2030م، والتي من أبرز توجهاتها نقل المجتمع السعودي من الاعتماد على البترول كمصدر رئيس للدخل إلى تنويع الإنتاج ومصادر الدخل فيه. كما من المستهدف أن ينتج عن رؤية 2030م الإستراتيجية الكثير من التغييرات في الجوانب الاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والسياحية، والترفيهية، والتقنية، والتعليمية، والصحية، والإدارية، والأمنية وغيرها في المجتمع السعودي.
وأبرز الأسس والتوجهات التي ينبغي أن تحتويها الإستراتيجية الفاعلة للأمن الوطني تتمثّل في أمور منها: حماية أمن الوطن بكل أركانه والحلقات المكونة لتلك الأركان. دعم وحماية الرخاء الوطني لجميع فئات المجتمع. جعل الأمن الوطني الشامل في قمة الأولويات الوطنية الأخرى. دعم وحماية قوة ومركز تاثير الوطن بين الأمم الأخرى. حماية قيم الوطن الأساسية. النظر للمواطن على أنه مصدر أمن ورخاء الوطن. المعرفة التامة بمناطق نفوذ الوطن الجيوبولوتيكية الإستراتيجية محلياً وإقليمياً ودولياً وحمايتها والدفاع عنها ضد المخاطر في المدى القصير والمتوسط والبعيد. العناية بالربط والتنسيق بين حلقات الأمن الوطني الأخرى الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والإدارية، والصحية، والتعليمية، والتقنية وغيرها وحمايتها من مختلف المخاطر. توفير خطط الإنذار المبكر ومواجهة مختلف الأزمات الداخلية والخارجية والكوارث الطبيعية. وأخيراً وليس آخراً دعم وحماية مركز الوطن التفاوضي والتنافسي والابتكاري بين الأمم الأخرى وتنبيه قيادة البلاد لما قد تتعرض له من محاطر.
2- إدارة الأمن الوطني كغيرها من الإدارات الفنية المتخصصة مثل الإدارة الصحية، وإدارة الاستثمارات المالية، وإدارة القوات المسلحة وما يماثلها تتبع قواعد ونهج الإدارة العامة من حيث اختيار وإدارة الأفراد، ووضع الشخص المناسب في الموقع المناسب. ومن حيث التسلسل الإشرافي والرئاسي، واستخراج واستثمار أفضل ما لدى العاملين من أساليب العمل والابتكار. ومن حيث تدريبهم على كيفية صنع واتخاذ القرارات وتحقيق الأهداف. كما ينبغي تدريب الموارد البشرية الفنية والبحثية وغيرها في مراكز وأجهزة الأمن الوطني على أمور مثل إدارة الوقت، والقيادة والإبداع الإداري، ومهارات التفاوض، وإدارة الصراع، ومهارات الحفز والتشجيع والمحاسبة والحوكمة. وتدريبهم على مهارات التعامل مع الدول والمؤسسات الأجنبية في استخلاص المعلومات المفيدة للأمن الوطني دون أن يتم اختراقهم من الأجهزة الأمنية لتلك الدول والمؤسسات سواء من خلال تسريبات غير مقصودة يتلفظ بها الباحث أو ضابط الاتصال أو من خلال الإغراء أو الابتزاز.
غير أن إدارة الأمن الوطني ودورها الحساس والشامل والمتداخل في المجتمع وخارج المجتمع يضفي عليها أهمية خاصة فيما يتعلّق بسرية العمل، وتواصله، وطبيعته التي لا تحتمل شيئاً من الخطأ أو التقصير أو سوء التقدير. ويستتبع ذلك اختيار ذهنيات وعقليات وشخصيات وكفاءات وخبرات متميزة لإدارة الأمن الوطني بأساليب حديثة ورؤى شاملة وتقنيات متقدمة. كما تستتبع تلك الطبيعة الخاصة لإدارة الأمن الوطني الإبداع في جمع وتصنيف المعلومات وتحليلها وتحويلها إلى مؤشرات واحتمالات ونذر وخرائط طريق تشتمل على حلول وخيارات وسيناريوهات وبدائل تقدم للقيادات المعنية في الوطن المعني بتوقيت دقيق غير متأخر ولا متقدم عن أوانه. وهذا المطلب بدوره يستتبع السخاء في الإنفاق على الدراسات والاستطلاعات والأبحاث والتدريب والتطوير بأجهزة الأمن الوطني، إضافة إلى الأهمية القصوى لتوفير بيئة عمل مشجعة ومريحة وجاذبة للطواقم الإدارية والباحثين المتميزين بمختلف فئاتهم وتخصصاتهم.
إن بناء إدارة فاعلة لأمن وطني شامل ينبغي أن يستند على إستراتيجية أمنية تنطلق من رؤية ورسالة وأهداف وتطلعات أركان المجتمع والحلقات التي تشكل كل ركن منه. ويقاس نجاح وفاعلية إستراتيجية وإدارة الأمن الوطني باعتنائها بأمور من أبرزها: جمع دقيق وكاف وواعي للمعلومات الأمنية مع تحليل كمي ونوعي لها وتزويد القيادة بموجز يومي مصور و/ أو مكتوب بمجمل القضايا والمستجدات الأمنية المحلية والدولية. اكتشاف الثغرات في أداء ومنجزات بقية الأجهزة الأمنية في الوطن والتنسيق بينها. المتابعة المستمرة للملفات الأمنية وتحديثها بما يضمن مواكبتها للمستجدات في موضوعاتها. التوقع المبكر لتوجهات الأحداث المحلية والدولية وما قد يترتب عليها من مخاطر وأزمات للوطن ومصالحه الإستراتيجية وتقديم السيناريوهات الملائمة للوقاية منها أو علاجها. حماية الأهداف الإستراتيجية ذات المساس بالأمن الوطني الشامل مثل تماسك وتكامل أركان المجتمع والحلقات المكونة لتلك الأركان. تنبيه القيادة بتقارير دورية أسبوعية أو شهرية تستعرض مجمل الأخطار التي يتعرض لها الوطن وتربط بين حاضر ومستقبل تلك الأخطار.
كما يقاس نجاح وفاعلية إدارة الأمن الوطني بعنايتها بأمور مثل القدرة على حماية وتعزيز موقف الوطن الإنتاجي والتنافسي والتفاوضي والريادي إقليمياً وعالمياً. القدرة على توفير بيئة عمل جاذبة للكفاءات ومشجعة على الإبداع والولاء المؤسسي من مختلف التخصصات والخبرات وتوفير ما يلزمها من التدريب المتنوع لصقل قدراتها ومهاراتها وجعلها متابعة ومطلعة على تاريخ ومستجدات الأوضاع والمخاطر المحلية والإقليمية والدولية وما يحكمها أو يتحكم بها من نظريات وتطبيقات وما يلزمها من الوقاية والعلاج. الاعتناء بمكافحة التجسس على الوطن وأمنه واختراق بنوك وقواعد وأرشيفات معلوماته والقدرة على صدها والتعامل الفاعل معها. الاعتناء بموازين القوى والتوازنات العسكرية والأمنية الإقليمية والدولية واختلالاتها وتأثير ذلك على الأمن الوطني وتنبيه القيادة في وقت مبكر. وأخيراً، ينبغي أن يكون من اهتمامات ومقاييس نجاح إدارة الأمن الوطني وعيها وقدرتها على استطلاع واستثمار الفرص التي تصاحب أو تنتج عن المشكلات والأزمات والكوارث الأمنية على المستوى الوطني والقومي وإبرازها أمام قيادة الوطن. كما أن على جهاز الأمن الوطني الفاعل أن يعي ويدرك أن له دورين كبيرين متلازمين أحدهما وقائي يهتم بالتحذير المسبق للأحداث والمخاطر المتوقعة، والآخر علاجي يهتم بتحديد وتجسيد المخاطر الواقعة وتقديم الحلول اللازمة لعلاجها والتخلص من آثارها وتصحيح مساراتها بما يخدم الأمن الوطني. ولا شك أن بلداً لا يمتلك ضمن مؤسسات الحكم فيه جهازاً للأمن الوطني على مستوى رفيع من الكفاءة والفاعلية لن يحقق أمن الوطن وأهدافه في النمو والتقدم والريادة بين شعوب الأرض.
وفي الختام، لا بد من تذكير أجهزة الأمن الوطني ونحن في عصر العولمة، والتبادلات التجارية الإلكتروتية، والإنترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي، أن عليها الاستعداد والتأهب لمواجهة موجات جديدة من المخاطر الأمنية. تلك المخاطر تغذيها الوسائط الإلكترونية بفضائها المفتوح والفسيح، ويحمل لواءها منظمات ومليشيات الإرهاب الرسمية وغير الرسمية النشطة منها والنائمة في العالم. كما يحمل لواءها أفراد وجماعات الفكر المتطرف والمنحرف، وعصابات الإتجار بالمخدرات والبشر، وعصابات غسل وتبييض الأموال، وعصابات تهريب الأسلحة الفتاكة الكيماوية والبيلوجية، وعصابات الجريمة المنظمة. وتلك المخاطر سوف تضاعف من مسؤوليات وجهود أجهزة الأمن الوطني خلال ما تبقى من القرن الحادي والعشرين على أقل تقدير. وأخيراً ينبغي التذكير أن النجاح في حماية الأمن الوطني من خلال إدارة ذات كفاءة وفاعلية لا بد أن ينطلق من إستراتيجية أمنية ذات رؤية شاملة تحدد جوانب الأمن الوطني في المجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية في شتى الميادين بما يضمن سلامة وامن الدولة والمجتمع وتقدمه ورفاه مواطنيه وحماية ونماء مصالحه وقيمه واهتماماته الإستراتيجية محلياً وإقليمياً ودولياً. ولا يقل عن البعد الإستراتيجي في أهميته بعد توفير بيئة عمل جاذبة للإبداع والمبدعين.
... ... ...
المراجع العلمية
العربية:
1. مركز البحرين للدراسات الإستراتيجية والدولية والطاقة. الأمن الوطني والإقليمي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية - رؤية من الداخل / مجموعة أوراق عمل. (يناير 2012 م). الرابط:
http://www.derasat.org.bh/ar/publications/العربية - الأمن - الوطني -والإقليمي -لدول-م/
الأجنبية:
1. Executive office of the president of the United States of America, «Untied States National Security Council». Wikipedia, (26/01/2019). Link: https://en.wikipedia.org/wiki/United_States_National_Security_Council
2. Flour noy, Michele. «Nine Lessons for navigating National Security: Papers for the Next President Series», (March 25, 2016). Link: https://www.cnas.org/publications/reports/nine-lessons-for-navigating-national-security
3. Gill, Peter, الجزيرة Phythian, Mark, «Developing Intelligence Theory». Journal: Intelligence and National Security, Volume 33, 2018, issue 4: Special Issue: Developing Intelligence Theory. Link: https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/02684527.2018.1457752?src=recsys
4. Cramer, Franklin D. الجزيرة Wrightson. Jr., James A. Innovation, Leadership and National Security. The Atlantic Council of the United States, (2016). Link: https://www.atlanticcouncil.org/images/publications/Innovation_Leadership_and_National_Security_web_0411.pdf
5. Knudsen, bard B., «Developing a National Security Policy/strategy; a Roadmap», Security and Peace Journal, Volume: 30, No: 3 (2012). Link: https://www.jstor.org/stable/24233939?seq=1#page_scan_tab_contents
6. United States Army War College, Department of National security and Strategy, National Security Policy and Strategy. Course Directive, Academic Year (2017). Link: https://www.armywarcollege.edu/documents/Directives/AY18%20National%20Security%20Policy%20الجزيرة%20Strategy%20Core%20Course.pdf
** **
- كاتب ومحلِّل سياسي وإستراتيجي سعودي، نائب مدير عام معهد الإدارة العامة سابقاً
Ghaith.m@hotmail.com