أحمد المغلوث
كان يجلس إلى سفرة الطعام مع أفراد أسرته لتناول طعام السحور، وكانت السفرة عامرة بما لذّ وطاب من الأطعمة الرمضانية الشعبية المتوارثة بعضها من بقايا «سفرة» الإفطار إضافة إلى طبق السحور الرئيسى والذي أعدته الليلة خالته التي تقيم معهم خلال سفر زوجها إلى خارج الوطن في مهمة عمل، كانت الخالة تراقب الجميع وهم يتناولون الطعام، بل إنها كانت تركز النظر على من يمد يده لطبقها الذي أعدته لترى تأثير طعمه ومدى إقباله عليه.. هذه المراقبة نتيجة لأنه أول طبق من «الجريش» تعده بنفسها بعدما طلبت منها والدته طبخه. لقد جلست بجوار «الموقد» الذي كان يحتل جزءاً من مساحة اقتطعت من تحت «الدرج» المؤدي إلى السطح وهذا المكان هو مطبخ البيت في الماضي. كان القدر الذي طبخت فيه «الجريش» يحمله موقد حديدي رباعي الأرجل، وبجانبه خزانة خشبية بدون أبواب وضعت فيها زجاجات وعلب بداخلها مختلف التوابل وكل ما له علاقة بإعداد الطعام. كانت مثل غيرها تجلس أمام الموقد على ركبتيها، ورغم ما كانت تشعر به من الأم إلا أنها تعودت على ذلك مثل ملايين من ربات البيوت فيما مضى من زمن. تنهدت أكثر من مرة وهي تراقب ردود فعل أبناء وبنات شقيقتها وهي تدعو الله مخلصة أن يكون «جريشها» يشرّفها. آه لو تستطيع أن تدخل في نفوسهم جميعاً وتعرف رأي كل واحد وواحدة منهم والذين تحلّقوا حول «سفرة السحور» كانت في شوق لمعرفة ذلك كشوقها لزوجها الحبيب. عند هذه اللحظة غص صوتها وكادت تبكي شوقاً إليه، بل تمنت لو كان يجلس معهم لتناول «الجريش» جعله يعيش، وفجأة قالت عسى طبخي عجبكم إن شاء الله «الجريش» زين. فرد «صلوحي» ابن شقيقتها بصراحة طعمه مثل الطين! قالها وهو يتناول معلقة من المهلبية. فلكزته والدته وانحنت عليه هامسة ومعاتبة.. فقال بس يا خالتي أنا: أموت في الطين. حتى إن جدتي تقول إن أمي لما كانت حاملاً بي كانت تأكل طين.. صحيح يا يمه؟ قوليها بصراحة إنك السبب وراء عشقي للطين تسرّب هذا العشق حتى أثر فيني إلى اليوم.. وراح يتفلسف: أصلاً ليس بمستغرب أن يعشق ويحب الواحد «الطين» أليس الإنسان خلقه الله من «صلصال» يعني طين، وبذل صلوحي جهوداً متعدّدة لتبرير وصفه لجريش خالته، ولكن كل ما استطاع أن يحصل عليه هو إشادتهم بأن عشقه للقراءة وتميزه في المدرسة وحفظه لأكثر من جزء من القرآن الكريم وحرصه على مطالعة مجلات سندباد وميكي وبساط الريح كل هذا حسّن من وعيه، وبدأت ملامحالته تأخذ طابعاً مشرقاً كأنما كلماته وتبريره «ممحاة» كبيرة استطاعت أن تمسح رأيه الأول.. تذكّرت الخالة ذلك وهي جالسة على مائدة الطعام في بيتها العصري تتناول السحور وأمامها طبق «الجريش» الذي أعدته حفيدتها الطبيبة. وهي تسألها نفس السؤال الذي طرحته على أبناء شقيقتها قبل أربعة عقود وتردد بينها وبين نفسها الحمد لله الذي بلغنا رمضان وعقبال كل عام..؟!