م. بدر بن ناصر الحمدان
بعد منتصف الليل، أبريل 2019م، على متن رحلة طيران متجهة إلى «الباكستان» تلبية لدعوة كريمة من صديق باكستاني قديم، يحمل «قلباً» سعودياً خالصاً، المسافة بين «الرياض» و«لاهور» تستغرق قرابة أربع ساعات، كانت بمنزلة تَرَقُّبُ لتلك البلاد المجهولة بالنسبة لي، ربما لا أحمل في ذاكرتي تجاهها سوى أنها بلد إسلامي، يمتلك جيشاً قوياً، وشعباً طيباً، واقتصادًا فقيراً، وأرضًا عانت كثيراً من الحروب، هذا كل ما كنت أتصوره عن «الباكستان».
مع بزوغ الشمس، اقتربت الطائرة من مطار «لاهور»، النظرة الأولى للمدينة من أعلى توحي أن ثمة «قانونًا عمرانيًا» صارمًا وراء المحافظة على تنظيم العلاقة بين الأراضي الزراعية والتجمعات العمرانية المحيطة بها في ضواحي المدينة، المنظر شبيه جداً على المستوى المكاني عندما تقترب الطائرة من مطار «هيثرو»، التناغم الكبير بين الإنسان والمكان «بيئياً» يعبّر عن «ثقافة» تعايش نادرة.
تخطيط مدينة «لاهور» عبارة عن «خليط» بين العديد من الأنماط والمدارس التخطيطية، ورغم ذلك فإن المدينة استطاعت أن تقدم نفسها كنموذج «مُنظَّم» و«مُتجانِس» يظهر على هيئة «بيئة عمرانية» تفاعلية ومرنة خاصة في علاقتها مع شبكة النقل الداخلية، اللافت للنظر قدرة المدينة على دمج مستويات مختلفة من الأحياء بالرغم من التباين الظاهر في «ديمغرافيتها» و«اقتصاداتها»، هذا أمر في غاية الأهمية.
في الطريق من «لاهور» إلى «إسلام اباد»، تمتد سلسلة من التجمعات العمرانية والمزارع المؤهلة التي يبدو أنها نمت عضوياً على طول الطريق، أهم تلك التجمعات هي مدينتي «جوجرانوالا» و«جوجارات» التي يشكل تخطيطهما نسخة من النمط الإشعاعي الدائري من خلال محاور وطرق شريانية تتفرع من مركز المدينة إلى أطرافها، مع تقاطعات حلقية تتسع طردياً مع البعد عن منطقة الأعمال المركزية، مدن تعج بالناس، والمصانع، والأشرطة التجارية التقليدية.
لم أنتظر طويلاً بعد جولتي داخل «إسلام أباد» المدينة الحديثة في كل شيء حتى أستنتج أن اليوناني «دوكسياديس» قد مرّ من هنا، هي نسخة من العاصمة السعودية الرياض في نمطها التخطيطي الذي يتشكل من عدد من القطاعات التي ينقسم كل منها إلى أربعة قطاعات أخرى فرعية محاطة بالأحزمة الخضراء والمناطق المفتوحة ذات النسبة العظمى من استخدامات المدينة.
أكثر مكان أدهشني في الباكستان هي «كشمير» أو جنة الدنيا كما يطلقون عليها، الطريق من «إسلام أباد» إلى «مظفر أباد» عاصمة هذا الإقليم، هو تجربة «حياة» بحد ذاته، رغم وعورة الطريق إلا أن الطبيعة الساحرة بجبالها الخضراء وأنهارها المتدفقة وطقسها البارد، تمنحك تجربة استثنائية لكي تعيش الأرض بكل تفاصيلها، وتتعرف على من يسكن عليها. هذا الطريق يمثل «عصب حياة» لكل السكان المحليين الذين اتخذوا من الجبال المجاورة بيوتاً لهم، لن تصدق «فلسفة البقاء» التي يمنحها هذا المحور الجبلي لكل من يتشبث به كمولّد اقتصادي رئيس.
الاندماج مع «الشعب الباكستاني» على أرضهم يجعل منك إنسانًا آخر، يجبرك على قراءة المشهد من جديد، ثمة «ثقافة» و«حضارة» نشأت وبقيت واستمرت في ظروف صعبة، شعب «مُثابر» ويمتلك «إرادة» حقيقية. نظافة «الأماكن العامة» تعكس اهتمامًا بالغًا «بالتربية السلوكية» لأفراد المجتمع، هذا أمر واضح جداً، وظاهر بشكل جلي في «الأخلاق» العالية، ومعاملة الناس للآخرين.
في رأيي الشخصي أن «الفنادق»، و«محطات الوقود»، و«كفاءة الطرق» أكثر ثلاثة عناصر «متفوقة» على مستوى البنية التحتية، إنه شيء «مذهل» أن تجد هذه النماذج من «الجودة التشغيلية» في بلد يعاني اقتصاديًا. لدي قناعة كبيرة أن «الباكستان» تمتلك «فكراً» مختلفاً في «إدارة المدن» وتشغيلها ورقابتها، قدرة «عجيبة» على استثمار الموارد «المتاحة».
لم يكن هناك سيناريو لوداع الباكستان أجمل من المغادرة عبر بوابة «مطار إسلام آباد» الجديد، التحفة المعمارية «المُذهلة» والتي تمثل بوابة باكستان إلى العالم، ونموذجاً للمطارات المتطورة على مستوى البلاد، وأحد أهم المعالم الهندسية الحديثة التي تمثل باكستان في القرن الواحد والعشرين، التنظيم داخل المطار في غاية «الاحترافية»، يبرهن أن المواطن الباكستاني على قدر كبير من «الثقة» و«التأهيل» في قيادة التغيير والتطوير نحو مستقبل أفضل.
بإقلاع الطائرة المتجهة إلى الرياض، انتهت أجمل الحكايات التي عشتها على أرض باكستان «الجميلة»، و«الآمنة»، والمفعمة بكل مظاهر «الحياة». سافروا إلى «الباكستان» لتتعرفوا عن قرب على «شعب استثنائي» يحبنا، ونحبه.