د. محمد خيري آل مرشد
المعرفة هي تحقيق صورة ذهنية في العقل، أو هي حال الإدراك المعرفي، أي إدراك مسألة ما بجوانبها المختلفة، وهو روح المعرفة.. ومصادر المعرفة تختلف بحسب مدارسها، فهناك المعرفة المنطقية (سقراط، أفلاطون، أرسطو)، التجريبية الحسية (ماركس، لينين)، والعقلانية (ابن حزم، ابن رشد، ديكارت، كانت)، الإيمانية العرفانية (ابن تيمية، الغزالي)..
في الغالب لا يمتلك أحد منا الحقيقة كاملة، فهي موزعة بيننا بنسب معرفية مختلفة، فهي تتوزع بين المنشغلين بها.. فالصورة تكتمل أو تكاد بتجميع كل تلك الفصول المعرفية والأفكار حول هذه القضية أو تلك، وهذا يقتضي بالضرورة الاستماع إلى الرأي الآخر والأخذ من هذه الآراء ما يتناسب والشروط العلمية المعلومة للبحث أو العمل في الحقل العلمي والمعرفي بشكل عام، وأن لا نميل إلى الانتقائية الفكرية، وهذا ما يقربنا من الحقيقة أكثر..
وهنا لابد من التذكير بأن أول شرط لصحة البحث العلمي والمعرفي هو حرية الفكر، حرية النشر، حرية الاختيار والموضوعية والأمانة العلمية، فإذا لم يكن هناك حرية بحث وحرية في الفكر والنشر، فسيبقى البحث ناقصاً ويبقى الباحث والعالم المقيد يدور في إطار مغلق لا يستطيع الخروج منه ولا يتجاوزه، فتبقى أفكاره تدور في هذه المساحة الضيقة فلا يستطيع أن يكون في فضاء معرفي عام واسع، يتجارى به مع أقرانه ليقدم كل منهم أفضل ما لديه ويتقدم بذلك الأصح بلا شك..
إلا أن الإشكال أحياناًً يأتي ممن يتعمد الغوص فيما يدعم وجهة نظره الخاصة في تشكيل المساحة الفكرية العامة الذي يجب أن يسود حسب متطلبات الخاصة، وهذا يؤثر بالضرورة على النتائج الإيجابية الفكرية.. قد يكون ما يطرح في الفكر أو البحث صحيحاً؛ ولكنه يبقى جزءاً من الحقيقة ما لم يكن في فضاء علمي حقيقي، ويبقى ناقصاً طالما يغفل أو يسكت أو حتى يطمس عن كل ما يتعارض مع وجهة النظر الخاصة، التي تحدد ما هو مطلوب وما هو غير مرغوب، فلا يكون هنا السكوت أو التغافل هو سقط سهواً؛ بل سقط عمداً لكي يبقى يدور في الحقل المعرفي وفي الإطار الخاص، حيث لا يسمح للأطراف المنافسة الدخول إلى هذا الحقل؛ بل يعتمد إلى العمل على إثبات خروجهم عن الخط الصحيح والمعتمد، هكذا يتشكل حقل معرفي ناقص حتى إن كان ما تضمنه صحيحاً..
هنا لابد من طرح موضوعية الناشر أو الباحث فتكون مصداقيته على الميزان المعرفي والأخلاقي، فالأهمية هنا تعود على اتساع أو ضيق أسس ومنطلقات وقواعد تشكيل الفكر العربي حسب النظام المعرفي في إطار الحقل المعرفي الخاص، وهنا يتشكل عقل معرفي قانوني يتحرك ضمن دائرة معرفية ضيقة، وليس الفضاء الفكري العام الذي لا يمتلك حدودًا معرفية..
إذا ما أردنا أن نخرج إلى العالم ونكون فعالين في حقل المعرفة العالمي، فعلينا أولاً أن نعيد أطر التفكير المعرفي التي ورثناها إلى أطر الحاضر، وأن ننتقد بإيجابية خالصة الأطر التي عملنا من خلالها لقرون والفكر وأداته العقل، ليكون عقلاً حاضراً فعالاً ليس مستقبلاً فقط، ولكي ننطلق مع مسيرة الأمم العلمية والحضارية ونشارك بها، وهناك محطات انطلاق يجب أن ينطلق منها وهي المفاهيم والقيم والموروث الثقافي أسس قيمية لها، يضاف إليها كل التصورات والرؤى وآليات اكتساب المعرفة وإنتاجها والاستفادة منها، هذا يتطلب مراجعة شاملة نقدية بحاضنة الدولة المخلصة، فهي المسؤولة عن إيجاد بيئة جاذبة للفكر والمفكرين..
تشكيل الفكر العربي أي تشكيل العقل العربي الذي هو وعاء الفكر، هذا العقل تشكل على مدى قرون من التراكمات المعرفية والثقافية عبر كل الأزمنة التي مر بها، وشكلت في النهاية إرثاً ثقافياً ينطلق منه أي باحث عاقل، والذي حافظ عليه عصر التدوين في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة؛ ولكن مخزونه الثقافي يمتد إلى ما قبل عصر التدوين، فلقد ورثنا خلاصات حضارة المصريين القدامى وأيضاً البابليين وحضارة ما بين النهرين، إلى أن انتهينا إلى العصر الجاهلي وما لحقه من عصور ذهبية في الإنتاج الفكري العربي والإسلامي، أسفر ذلك عن بناء حضارة ساهمت في بناء الحضارة الإنسانية، وهنا لابد من القول إن هناك من هوى وسقط في هذا، حيث رجع في تصنيف منطقتنا الشرقية باللاعقلانية، وأضفى صفة العقلانية على الغرب مثل المفكر أراكون (الذي تأثر بحياته في الغرب فأصيب بصدمة ثقافية)، وبعض ما قاله المفكر الجابري في هذه النقطة..
فالغرب ذاته يعترف بأنه استفاد كثيراً من الحضارة العربية والإسلامية، وفي كلتا الحالتين عند أراكون والجابري لا يستوي أن نطلق عليهما باحثين، لأن صفة الموضوعية الحيادية سقطت عندهما، فالأصح أن نقول إن لديهما مشروعًا ثقافيًا آخر حاولا التأسيس له، وهذا ينطبق أكثر على أراكون لوضوح توجهه الغربي.. وكان من الأجدر أن يقدما فكراً نهضوياً مستنهضاً كل مقومات الحضارة، لتشكيل نموذج معرف كامل (paradigm).. ومن هنا نقول أيضاً إنه من المفيد كسب واحتواء المعارف الغربية أو غيرها وترويضها؛ لكي تخدم ثقافتنا وتفتحنا على العالم، فنحن لسنا معزولين عن العالم؛ بل يجب العمل لنكون مؤثرين فيه لا مستقبلين فقط..
ومن هنا لابد من الإشارة إذن إلى قضية المشاركة الفكرية والعلمية؛ بل التركيز على اكتمالها باكتمال الأفكار حولها من مختلف الجوانب، أي من مختلف المناظير والمشارب العلمية، بمعنى أدق من مختلف وجهات النظر ليستقي منها العلوم والمعارف فتتصادم فيما بينها الأفكار؛ لكي تصقل النتيجة النهائية للفكرة على أساس بحثي علمي متين لكي تكتمل الفكرة، فتكون أفيد وأكثر يقينية..
إن أي تصور فكري يجب أن ينطلق أولاً من التخصص العملي ومن الهدوء الموضوعي المعتدل والمتزن، وأن يكون عاملاً مخلصاً صادقاً أميناً في النقل، محايداً في النقد حتى لا يشط عن الهدف وهو الغاية في إكمال الصورة العلمية والمعرفية لمسألة ما..!