د.عبد الرحمن الحبيب
قبل سنوات خمس اعتلى رجل منبر جامع النوري بالموصل لخطبة الجمعة، وباغت الناس بإعلان الخلافة، ونصَّب نفسه «الخليفة»، هكذا بلمح البصر! إنه إبراهيم عواد البدري الحاصل على الدكتوراه بالدراسات القرآنية، وزعيم داعش الملَّقب بأبي بكر البغدادي. لكنه بعدها لم يظهر للعلن، فتضاربت الأنباء عن إصابة بليغة منعته أو قضت عليه؛ ثم ظهر فجأة الأسبوع الماضي بتسجيل مصوَّر، إنما هذه المرة جالساً على الأرض بلا منبر ومتحدثاً لثلاثة من رجاله.. فما دلالات ذلك؟
زعيم داعش لم يظهر إلا مرتين خلال خمس سنوات، فقبل تحليل مضمون حديثه، يجدر تحليل طبيعة ظهوره من نواح عدة كالتوقيت والمكان، والمظاهر الشكلية للمشهد ولغة الجسد.. فقد تكون الوسيلة التي استخدمها أفضل تفسيراً من رسالة مكررة اعتدنا عليها من تلك الجماعات.
التصوير تم بكاميرات عالية الجودة وتوزيع إضاءة احترافي عَكَس الضوء على مختلف أنحاء الغرفة، كما يقول المختصون (ديلي تلغراف)، مما يشير للإمكانات التقنية للتنظيم. وجاء التوقيت بعد حدثين مهمين؛: الأول هو نهاية «دولة» داعش بعد طرده من بلدة الباغوز شرقي سوريا؛ والثاني بعد الهجمات الإرهابية بسريلانكا التي قال إنها جاءت انتقاماً لخسارتهم الباغوز. لكن الإشارة لتلك الهجمات جاء بتسجيل صوتي فقط مما يرجح أن التصوير تم قبل 21 أبريل. ولأنه تطرق لأحداث السودان فالمؤكد أنها تمت بعد بدايتها.
أما المظهر، فكانت ملابسه شتوية مما يشير لبرودة الجو، ربما أوائل أبريل. هذه الملابس مشابهة لتلك المنتشرة غرب العراق وشرق سوريا، متخلياً عن العمامة السوداء (وما تتضمنه من معانٍ دينية) التي ارتداها بأول ظهور له، وكأنه يقر بنهاية خلافته. وكان اثنان ممن ظهرا معه يرتديان مثله، بينما الآخر بلباس سعودي وكان بارزاً بالمقدمة وظهر وهو يعرض على البغدادي نشاطات التنظيم، مما قد يشير لمحاولة إقحام السعودية لإنعاش خلاياه «الميتة سريرياً» بالسعودية بعد الفشل الأخير الذريع للتنظيم بمحافظة الزلفي والقبض على عناصر خليتهم الإرهابية.
يبدو التصوير داخل خيمة بيضاء حسبما ظهرت من جدرانها المموجة، إلا إذا كانت للتمويه. وكانوا جلوساً بمجلس عربي (أرضي) مصنوع من قماش منتشر شرق سوريا وغرب العراق حسب صحيفة كوريري ديلا سيرا الإيطالية. لذا يُعتقد أن البغدادي يقيم الآن بمنطقة نائية بين غرب العراق وشرق سوريا، مع ترجيح الأولى.
أهم المظاهر هي ارتداء البغدادي لسترة (صدرية) باللون الكاكي (الحربي) وعلى يمينه كلاشينكوف، بما يذكِّرنا بالوضعية التي يظهر بها أسامة بن لادن، وكذلك بالهدوء في الكلام ولغة الجسد (طريقة الجلوس وحركات اليد والوجه الجامد) لإظهار الثقة بالنفس. ويرى الخبراء أن تماهي البغدادي بهيئة بن لادن ربما لتقديم نفسه على أنه أهم الشخصيات الجهادية، حسبما أشارت صحيفة التايمز بتقرير لريتشارد سبنسر. كذلك ذكر الباحث عبد المنعم المشوح رئيس حملة السكينة لمواجهة التطرف بالسعودية، أن البغدادي بالشريط الأخير يحاول تقمّص شخصية بن لادن، مضيفاً «أنها عقدة لدى البغدادي قديمة، نظراً لاختلاف قوة الكاريزما والحضور الفاعل» (وكالة سبوتنيك).
الألفاظ التي استخدمها البغدادي معتادة بمصطلحات قروسطية هدفها تميز تلك الجماعات «الجهادية» عن الألفاظ الحديثة، ولم تتغيّر باستثناء مطالبة البغدادي لعناصره بعمليات استنزاف لوجستية، وهو مصطلح حديث غير مألوف استخدامه لدى تلك الجماعات وكأنها زلة لسان. كذلك غابت كلمة «خليفة» رغم ظهور الشريط المصور بعنوان «في استقبال أمير المؤمنين..».
إذا انتقلنا لمضمون كلام البغدادي، فكان كالمعتاد لتلك التنظيمات بإعلان الجهاد العالمي، لكنه أضاف له الوعيد بأن التنظيم سيسعى للثأر لقتلاه وأسراه بعد ذكره لـ «نهاية معركة الباغوز» في إشارة لاستسلام العديد من عناصر التنظيم وعوائلهم لقوات سوريا الديمقراطية.
مقابل هذا الشعور بالهزيمة، أكد البغدادي أن المعركة اليوم هي «معركة استنزاف ومطاولة للعدو». كما تحدث عن العمليات قائلاً إنها: «قد بلغت اثنتين وتسعين عملية في ثمان دول»، مؤكداً انضمام جماعات للتنظيم ودعاهم بتكثيف هجماتهم ومباركاً لهم ثباتهم. وتحدث عن توسع معارك التنظيم خارج الشرق الأوسط، ثم ظهر وهو يتصفّح ملفات 12 منطقة، ليبدو وكأنه يدير العمليات عن كثب.
الخلاصة، إن مظاهر الشريط المصوّر تمثِّل عملاً دعائياً نمطياً لجذب الانتباه، في محاولة بائسة لتأكيد قدرة التنظيم على البقاء واستمرار عملياته على المستوى العالمي. وإعلان البغدادي لنهاية معركة الباغوز، آخر معاقل داعش، يمثِّل اعترافاً بالهزيمة؛ كما أن إعلانه للوعيد بالانتقام يشكِّل اعترافاً بسقوط دولته المزعومة. أما دعوته لأنصاره بالثبات وتكثيف الهجمات فكأنها استدراراً لعواطف مهزومة أنعشها قليلاً ظهوره، مما دفع مؤيّديه لتجديد ولائهم له بمواقع التواصل الاجتماعي، مستبدلين صورته القديمة بتلك الجديدة، وكأن استبدال الصورة يعني استبدال المرحلة السابقة بأخرى جديدة.
هذا الاستبدال هو زبدة خطاب البغدادي، أي التحول من مرحلة التمكين (الدولة) والعودة إلى مرحلة التجنيد (التنظيم) وإعادة الانتشار وتوزيع العمليات؛ وهو نفس نهج تنظيم «القاعدة» التي ناصبها العداء بسبب هذا النهج. في نهاية المطاف، الدولة الطارئة التي أعلنها داعش عام 2014 تلاشت تماماً، لكن داعش كتنظيم لم ينته، منتقلاً إلى مرحلة جديدة من هجمات إرهابية لا تقل بؤساً عمَّا يفعله تنظيم القاعدة..