سأتحدث عن بعض الإشكالات المتعلقة بالاهتمام الشديد والمبالغ فيه بالاختبارات المحلية وكذلك الدولية من وجهة نظر بعض الدوائر العلمية، ثم أناقش بعض إشكالات الاختبارات بوجه عام من وجهة نظر اللسانيات التطبيقية الناقدة، وسأربط ذلك بواقعنا طلابًا، وأساتذة، ذلك الواقع الذي أدى فيه كون الاختبارات كل شيء إلى ضياع مستقبل الكثيرين - أو على أحسن حال عدم استثمار إمكانات وقدرات الطلاب الأخرى.
وقبل الدخول في الإشكالات من المهم أن نحرّر مفهوم مصطلح (educatin) أو ما يُترجم بمفردة (التعليم) في مسمى (وزارة التعليم)، ثم نرى كيف ترى الوزارة مهمتها ووظيفة الاختبارات فيها.
بداية مع التعريف بمفهوم كلمة (educatin) التي أرى أن مفردة (تربية) تعكسها بشكل أفضل ليقال (وزارة التربية) لا (وزارة التعليم)؛ فالتعليم ربما يقابلها (teaching) وهذه المفردة ليست المقصودة في الأدبيات والأوساط العلمية إلا ضمنًا وليست شاملة للمعنى المراد.
فمن خلال موقع هيئة المدارس البريطانية تشمل مفردة التربية (educatin) الأنشطة خارج المدرسة، والإعداد لمهارات الحياة عمومًا [حتى الطبخ في المراحل الابتدائية للذكور والإناث] وبناء الشخصية، ويتم التعاون مع جهات خارجية لصقل مهارات أخرى مثل تعليم الموسيقى [والفن وتعليم السباحة أيضًا في المراحل الابتدائية للجنسين]. كما تؤكد موسوعة بريتانيكا أن التربية تشمل التعلم الرسمي وغير الرسمي، وتعني أيضًا تطبيع الطالب اجتماعيًا وتكييفه حياتيًا.... وقد ذكر أحد الباحثين أن نظام التعليم الفنلندي -وهو يعد قدوة تحتذى في وزارة التعليم السعودية- يهدف إلى التأثير في الطلاب وإلهامهم ودفعهم لكي يحيوا حياة سعيدة ذات معنى وحافلة بالإنجاز. فهل هذه من الأهداف الرئيسة في تعليمنا من الناحية التطبيقية والإجرائية؟
وللعدل فلا أعتقد أن مفهوم وزارة التعليم لدينا يختلف كثيرًا عن الرؤى السابقة لكن الإشكال في التطبيق وفي كيفية تحقيق المهارات والمعارف والقيم الحياتية، وكذلك في كيفية التأكد من تحقيق هذه المهارات والمعارف والقيم سواء باختبار أو بغيره.
فالطلاب لدينا في وزارة التعليم يُصنفون ويُفرزون بناء على تفوقهم في اختبار (المعارف)، وهنا المشكلة التي أرى أن الوزارة ما إن تخلصت من الاختبارات المعرفية المفصلة السابقة في كل مادة حتى استبدلت بها كوابيس أخرى تحت مسميات مختلفة كاختبار القدرات والتحصيلي وغيرها مما يعد في نظري ربما أسوأ من التجزيء السابق. ومما يزيد من ضراوة الوضع وتفاقمه تركيز الوزارة حديثًا على النواتج التعليمية التي أصبحت توليها اهتمامًا لا يُشعر بأن الوزارة تعي أن التركيز على النواتج التعليمية بهذه الصورة وهذه الهالة لا يحظى بترحيب بعض المهتمين في المجال التربوي ولا يتضمن أية إشكالات فضلاً عن إهمال عملية التعلم نفسها (prcess) التي تحتل مكانًا مهمًا تعليميًا وتربويًا. ومن أوجه الاهتمام بالناتج التعليمي ما تضمنته الرسالة التي وجهها معالي وزير التعليم د. حمد آل الشيخ (نقطة رقم 13) بأن يُجعل الناتج التعليمي الهاجس الرئيس (هكذا!) في ذهن كل مسؤول داخل العمل وخارجه!! وأنا على يقين -من خلال معرفتي الشخصية وخلال العمل بمعالي الوزير- أنه لا يقصد مطلقًا إهمال العملية نفسها؛ لكن العبارة بهذه القطعية قد توحي بذلك.
على أية حال لم تتوقف جهود وزارة التعليم هنا؛ بل صارت -مثلها مثل غيرها من وزارات التعليم- تتفاعل مع الاختبارات الدولية مثل بيزا (PISA) وتيمز (TIMSS) وبيرلز (PIRLS) التي خصها معالي الوزير برقم (9) و(10) من رسالته الموجهة إلى الميدان التعليمي والعاملين فيه. هذا التأكيد الذي ألمسه بصفتي تربويًا أتفاعل مع الوزارة ألحظ استنفارًا له إلى حد كبير في الميدان، وهذا الاستنفار وحشد الجهود والطاقات قد يتغافل عن الانتقادات الموجهة إلى هذه الاختبارات الدولية وتحدياتها وإشكالاتها. طبعا رأيي هذا ليس تقليلاً من أهمية الاختبارات الدولية أو عدم ثقة بالوزارة ورجالها إلا أن إشعار الناس بأن الوزارة على وعي تام يما يحيط بالاختبارات الدولية من إشكالات وأنها قد اتخذت الإجراءات الكفيلة بالتغلب عليها أو على الأقل التخفيف من حدتها يجعلنا -تربويين وأولياء أمور- نطمئن على الواقع التربوي -كما اطمأن قلب إبراهيم مع ربه- أكثر من مسألة ثقة أو عدمها.
فمن الإشكالات التي تكتنف الاختبارات الدولية في بعض الدول التي تحسنت فيها نتائج اختباراتها ترى مقالة علمية أنه على الرغم من تحسن نتائج بيزا في بولندا فرأي العامة ما زال لم يتحسن مع هذه النتائج! كما أشارت المقالة نفسها إلى أن هذا النوع من الاختبارات محاط بانتقادات ومخاوف مما حدا بمعلمين وأكاديميين وخبراء حول العالم لكتابة رسالة إلى المسؤولين عنها للحد من إجراءاتها وتأثيرها على المجال التربوي مما يؤدي إلى الاعتماد على النتائج والقياسات الرقمية (الكمية والدرجات) والتطوير الوقتي قصير الأمد ويحجّم من المفهوم الواسع للتربية.
كما كان من انتقاداتها أنها تقارن بين أنظمة تعليمية تختلف عن بعضها من الناحية التاريخية ومن ناحية التقاليد التي تتبعها وتتبناها كل منها. كما أنها تقارن أنظمة تعليمية كبيرة كالولايات المتحدة بأنظمة بلدان صغيرة بمساحة مقاطعة أو حتى مدينة مثل سنغافورة وتايوان متغافلة عن الفروقات النوعية والكيفية بينها، وهذا ينطبق على مقارنة مجحفة كان بعض زملاء البعثة يتبنونها وهي مقارنة نظام البحرين والكويت وقطر التعليمي (الصغيرة جدًا) بنظام المملكة العربية السعودية التعليمي (الضخم)! إضافة إلى أن تجاهل التعقيدات التربوية في أنظمة التعليم لصالح مقارنة أرقام سطحية تجعل النتائج سطحية أيضًا ويثير الشكوك حول جدواها.
وفي مقالة أخرى حول انطباعات معملين من الولايات المتحدة ذهبوا إلى فنلندا للإفادة من النظام الفنلندي خرجوا ببعض النتائج التي لا تؤيد نتائج الاختبارات الدولية في الظاهر، منها:
أن أكثر من ربع الطلاب في فنلندا أشاروا إلى أنهم ليسوا سعيدين في مدارسهم ويشعرون بعدم الانتماء! بينما قد يظن الميدان التعليمي لدينا أن الأغلبية العظمى أو كل الطلاب هناك يشعرون بالغبطة والسرور. كما وُجدت سلوكيات مزعجة لا تتماشى مع ما تفرضه المدرسة على طلابها. وأعتقد أن هذه المخاوف والإشكالات منتشرة ومعروفة في الأدبيات والأوساط التربوية العالمية، ولا أظن منسوبي الوزارة لدينا بعيدين عن تجاذباتها.
انتقل الآن إلى الانتقادات الموجهة إلى اختبارات اللغة -بحسب تخصصي- بشكل خاص والتي تنطبق بشكل عام على أي اختبار مقنن ورسمي. فقد ذكر أحد الباحثين في مبحث نقد اختبارات اللغة أن السؤال المركزي دائمًا يدور حول صلاحية الاختبار في حد ذاته ويتجاهل في الوقت نفسه السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي للتقييم. كما أشار سبولسكي (splsky، 1995) أن امتحان التوفل يستثمر طريقًا للسيطرة والسلطة عن طريق الاختيار والتحفيز والمعاقبة... ولهذا فهناك استياء من تعزيز الاختبارات للتسلط وبسبب عدم إسهامها في العدالة الاجتماعية (انظر Kunnan، 2000)، ونشأت فكرة (رفض فكرة الاختبار المحايد: انظر Shhamy، 2000)... ويرى باحثون (Nrtn، Peirce، Stein، 1995) أنه باختيار واضع الاختبار من عرق معين وجنس معين فسيكون للمتقدمين الذين يحملون خصائص واضعي الاختبارات ميزة على غيرهم. وقد نقول إن هناك ميزة للمتفوق دراسيًا في النتائج على غيره. وترى شوامي (Shhamy، 2001) أن اختبار اللغة (وغيره كذلك) ليس حياديًا، بل «منتج ووكيل للأجندات الثقافية والاجتماعية والسياسية والتربوية والأيديولوجية التي تشكل حياة المشاركين والمعلمين والمتعلمين» وترى عدم وجود شيء اسمه «مجرد اختبار» كما ترى «أن اختبار اللغة هو دائمًا سياسي ويحتاج إلى أن نصبح أكثر وعيًا بآثار واستخدامات الاختبارات» وأعتقد أن هذا صحيح في تعزيز التفوق الدراسي وجعله المفهوم الأوحد والأعلى للتفوق في الحياة. ومما يعضد الاختزال الجزئي للتقييم بالاختبار والدرجات ما أشارت إليه باكستر (Baxter، 2003) من أن مواقع التأثير (القوة) محفورة في تطبيقات تربوية اجتماعية مهيمنة لصالح مواصفات معينة مثل: سيطرة الذكور، ودور الطلاب «عالو المقام»...
إذن ففكرة الاختبار والتقييم بالدرجات بحد ذاتها لا تلقى ترحيبًا مطلقًا من المخاوف والشكوك والانتقادات؛ فالدراسة والتعليم ونتائجه الكمية أصبحت كلها تقييمًا غير عادل لمن هم أصحاب مهارات أخرى وكفاءات ميدانية وغيرها مما تتطلبه الحياة إضافة إلى التفوق الدراسي. ومن هذه الفكرة سأطرح في المقال اللاحق تجربتي الخاصة طالبًا ومعلمًا وعضوًا استشاريًا في مكتب التربية في ليدز في بريطانيا وفي المجلس البلدي وفي مدارسها.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي