أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت/ 64].
قال أبو عبدالرحمن: لقد فسّر هذه الآية الكريمة الإمام (ابن جرير) رحمه الله تعالى في تفسيره بقوله: ((أما الآخرة فهي صفة للدار؛ وإنّما وصفت بذلك لمصيرها آخرةً لأولى [أي من أجل أولاً كانت قبلها]؛ فصارت الثانية لها))؛ وسيأتي خلال الثلاث صفحات القادمة غموض شديد سينفرج إن شاء الله تعالى بتحقيق الكلام عن مزرعة الآخرة.
قال أبو عبدالرحمن: (ابن جرير) رحمه الله تعالى على الرغم من إمامته معقّد التعبير كثيراً في تفسيره.. ثم ذكر احتمالاً ثانياً؛ فقال: ((وقد يجوز أن تكون سمّيت آخرةً لتأخّرها عن الخلق [أي المخلوقين] كما سمّيت الدنيا دنياً؛ لدنوها من الخلق)).. وقال (أبو حيان) رحمه الله تعالى في تفسيره: ((والآخرة تأنيث الآخر مقابل الأولى.. وأصل الوصف قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} [سورة القصص/ 83 ]؛ ثم صارت من الصفات الغالبة.. وقال (الراغب الأصفهاني) رحمه الله تعالى في كتابه (المفردات): ((آخر يقابل به الأوّل، وآخر يقابل به الواحد، ويعبّر بالدار الآخرة عن النشأة الثانية كما يعبّر بالدنيا عن النشأة الأولى؛ وقد توصف الدار بالآخرة تارةً نحو: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ} [سورة الأنعام/ 32]، وتضاف إليها تارةً نحو {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ} [سورة يوسف/ 57]؛ وقال الإمام (ابن فارس) رحمه الله تعالى في كتابه الفحل (مقاييس اللغة): ((الهمزة والخاء والراء أصل واحد؛ وهو خلاف التّقدّم؛ وهذا قياس أخذناه من الخليل [بن أحمد رحمه الله تعالى].. وابن دريد: يقول: (الآخر تأل للأول)؛ ثمّ رجّح [ابن فارس] رأي (ابن دريد) بمقتضى السياق.
قال أبو عبدالرحمن: دلّت سياقات لغة العرب على أنّ الأصل في لغة العرب لمادّة الهمزة والخاء والراء: أن يكون الآخر بمعنى أنه لا يليه شيء بعده؛ وليس الأصل أنّه ضدّ الأول؛ والبرهان على ذلك: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهو أفصح الناس، وأعرفهم بلغة العرب، وقد قال في وصفه ربّه جل وعلا في دعائه المشهور: (وأنت الآخر لا شيء بعدك)؛ فوصف الآخر بما لا شيء بعده؛ ورسول الله خير من نتعلم منه لغتنا.
والبرهان الثاني: أنّ الآخر قد يسبقه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو ملايين؛ فلم يتعيّن كونه ضدّ الأوّل؛ وإنما يتعيّن كونه ضدّ الأول في حالة واحدة؛ وهي إذا لم يوجد سوى واحد، أو ثان فيكون الثاني آخراً؛ لأنّه لا شيء بعده؛ وإنما توهّم أنّه ضدّ الأول؛ لأنّه لا يوجد غير أوّل وثان؛ وعلى هذا المعنى يحمل قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد/ 3]؛ لأنّه جمع الصفتين، إذ ليس هناك أول وثان وثالث؛ وإنما هو واحد فقط؛ فتعيّن أن يكون الأول والآخر ربّنا جل جلاله؛ وعلى هذا يكون الآخر بمعنى ضدّ القديم، وضدّ الأول؛ وذلك من المعاني المجازية لا الحقيقية؛ وصيغة فاعل في لغة العرب بمعنى من حصل منه الفعل؛ وهو اسم الفاعل؛ وصيغة فاعل: تدل على الاتّصاف بفعل الفاعل وإن لم يكن المتّصف فاعلاً مباشراً على الحقيقة كالآخرة؛ فلما صح هذا: علمنا علم اليقين أنّ الآخرة من فعل آخر بفتح الخاء ورفع الراء فهو آخر، وهي آخرة؛ وهو أخير؛ فاستغني عن هذا الفعل بمشتقّه؛ فبقى على الفعل الحقيقي، وبقيت صيغة آخر وآخرة بمعنى دلالتهما على الاتّصاف وإن لم يكن ثمّ فعل؛ وإذن فآخرة بمعنى المتّصفة بالتأخّر؛ ووصف ما بعد البعث بالدار الآخرة إنما هو بالنسبة للمكلّفين من الجن والإنس؛ وإذن فليس معنى الدار الآخرة أنّه لا دار بعدها؛ فإن قال قائل: (ليس هناك إلاّ دنياً وآخرة؛ وإذن فالآخرة سمّيت آخرة بالنظر إلى أنّ قبلها داراً أولى): فالجواب أنّ هذا صحيح في الواقع، وليس صحيحاً في اللغة؛ لأنّه لا عبرة بالمصادفات؛ وإنما العبرة باشتقاق اللغة.. والآخرة في اللغة ليست هي التي قبلها شيء؛ وإنما هي التي ليس بعدها شيء.. ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى فعّال لما يريد؛ فيحدث ربّنا سبحانه وتعالى أكواناً أخرى كما تشاء قدرته وحكمته؛ وتحديد الأيّام والأعوام المنتهية بيوم البعث: إنما هو لدنيا الأنس والجن؛ ويفعل الله ما يشاء.
قال أبو عبدالرحمن: هذه مناقشات لغويّة يصاب قارئوها بالدّوار، وما سيليها أشدّ غموضاً؛ ولهذا فسأدّخرها لأحد أجزاء كتيّبي (حديث الشهر)؛ وإنّما يهمّني التّوسّع في معنى (مزرعة الآخرة)؛ فالعبد الصالح هو الذي يتّقي ربه منذ بلوغه الحلم إلى أن يتوفّاه ربه، والعبد الآخر الظالم نفسه (وأنا واحد منهم) إذا ختم الله له بالخير والإنابة: محظيّ بالإدلاج في مزرعة الآخرة؛ ووقت الإدلاج في كلّ وقت؛ ولكنّه في الأوقات الأفضل كشهر رمضان المبارك، وفي مشاعر الحج.. إلخ: أكثر أجوراً، وأكثر رحمة؛ لأنّها من ربنا تبارك اسمه؛ وهي أكثر قبولاً ونوراً؛ فإلى لقاء في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى؛ لاستيعاب أقصى ما أقدر عليه من فضائل (مزرعة الآخرة)؛ ونحن في هذا الشهر المبارك في كبد (مزرعة الآخرة) إن أحسنّا العمل، والله المستعان.