د. خيرية السقاف
ولعل الآباء الذين يحتجون بضيق الوقت خلال السنة الدراسية دون إيفاء الأبناء حقهم في الجلوس إليهم، والنقاش معهم في أمور تؤسس فيهم القيم، والأخلاق، والشعور بالخطأ والصواب، وبالحق والباطل، وبالمقبول والمرفوض ضمن قواعد الفضائل التي يرتجى أن تكون سلوكا، وفكرا، وقناعة وتمثُّلا في الإنسان الناضج، الواعي، لن يكون لهم الحجة في ضوء شهور أربعة تنساب بكل لحظاتها منبسطة بين أيديهم ليقتربوا من أبنائهم، وليعيدوا صياغة التعامل معهم، فيضعون في خططهم أهداف البلوغ بهم إلى التخلص من السالب، والاقتراب من الموجب في أفكارهم، وقناعاتهم، ومعرفتهم بخصائص انتمائهم، وهويتهم، ومن ثم بشريتهم، فتطبيق يتضمنه مسلكهم المنبعث من فضائل «السلوك»، إذ ليست الأخلاق كيف يرتدي أحدهم ملابسه، ويؤنِّق هندامه، ويعطر أطرافه، ويمسِّد شَعره، ويتبسم في الظاهر وهو كئيب في تصرفه، وهي ليست الأكل بالشوكة، والوقوف في صف، وعوج اللسان بمفردات أعجمية، والتباهي بآخر صرعات المستَهلَك من غثاء العولمة..،
الأخلاق عصبة تنبع من إيمان، يكبح الشهوات، ويقدم مخافة الله في السلوك، ويوقن في الخالق تعالى المبتدأ والمنتهى بأنه «يراه إن لم يكن يراه»، الأخلاق هي الوقوف عند الحد الفاصل بين نعم، ولا في كل أمر، وهذا ما يفتقده الجيل الناشئ في ضوء العصرنة المفتعلة في مفهوم كليهم..
ولأن هناك قصورًا كبيرًا في عناية الآباء بكل ذلك في أبنائهم، في هذا الجيل الذي يتأرجح بين ما له وما عليه، هل تُترك الأيامُ هدرا دون أن تكون مهمة الوالدين الالتفات الجاد بعزم، وإقبال إلى هذه النواقص الكبيرة في الأبناء، وشغلها بما يحتاجون إليه من توطيد نفوسهم، وتعبئة قلوبهم بالخير الذي هو مصدر، والذي هو موئل يوم يُسأل كل والد راع عن ابنه، بعد أن تركه لريح تعج، وتقتلع معها ما بقى من آثارٍ حرص عليها الجيل الذي أسس في كبار الأسر كل القيم التعبدية والسلوكية، والأخلاقية، والفكرية، بل النفسية بنسج العلاقة بين القلوب والسماء، لتوطيدها فيهم، ولجعل الحياة سبيلاً لا غاية، والدنيا اشتغالاً لا انشغالاً..
وبالقسوة التي فرضها واقع الجيل هذا الذي تم إقصاؤه عن التربية والتوجيه على وجوه الفضائل، وعدم التفريط، والنأي عن الإفراط، والذي بات فيه الشباب يرفضون توجيه الكبار، بل تجد منهم الابن يطلب إلى والديه عدم التدخل في تربية أبنائه ذاته، لأنه يرى في نفسه الأعلم من والديه، والأكثر تحضرا منهم، والأحوط بأساليب التربية «الحديثة» التي يظن أنها الأمثل، هذه التي أحدثت فجوة كبيرة بين الجذر في التربية، وبين السطح في المكتَسَب، كالذي نشهد، فيا ليت آباءهم في الأيام الكثيرة التي هي «الإجازة»، الطويلة الساعات أن يحملوا مناجلهم ليزرعوا الجذور في أبنائهم، حسن العبادة، وأهمية التعود على الدعاء، والاطمئنان فيهما تقربا، وتوكلا، وخشية، ورجاء إلى الله، وتوطيد فضائل الأخلاق، وحسن التعامل، والوعي بالقيم، والسلوك بها النابع من القدوة العظمى محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، فلتفتح سيرته بين أيديهم، وللتلى عليهم أيامه، ومسالكه، ومواقفه، وأخلاقه، وحسن عبادته، وحسن تعامله..
الله الله بهذه الأمانة، المسؤولية التي لا مناص من تبعاتها، ومآلاتها.