د.محمد بن عبدالرحمن البشر
انتظار قدوم الحبيب متعة، فكيف وهو سيقيم بيننا ثلاثين يومًا، وهو حبيب لا يأتي خالي الوفاض، بل يحمل في جعبته الخير والأمل؛ فالنفوس تتطلع إليه لمعرفتها أن آفاقه واسعة؛ فهو صوم، وصلاة، وقراءة قرآن، ودعاء، وذكر، وهو مواعظ، وبُعد عن القيل والقال، وما قد يمس صيام الصائم، أو يأخذ من وقت قوام الليل.
الإنسان بطبعه يتعلق بالأمل، ويراه أحد السبل لجلب السعادة، فلا أجمل من تمنيه النفس بالأمل، يقول الشاعر:
أمني النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
غير أن الأمل المؤكد الوقوع، وألذ أنواع الأمل، لا يأتي إلا باليقين الذي ينبع من حُسن الظن بالله، بمقدار يقينك في ظنك بالله بمقدار ما قد يأتيك من خير بإذن الله.
شهر رمضان الحبيب قادم، ولعلنا نجعله شهرًا مفعمًا باليقين، فندعو الله ونحن على يقين من الاستجابة، وأن الخيرة فيما اختاره الله، ونصلي ونصوم تقربًا إلى الله، موقنين بأن الله بكرمه ومنِّه سوف يقبل منا العبادة، ونكون موقنين بأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.
اليقين يضفي على المرء ابتهاجًا وسعادة ليقينه بأن الله سيفتح له من أبواب الصحة والهناء والرزق والعطاء وصلاح الأهل والأبناء؛ فتغمره سعادة لم تدر بخلده، وبهجة تملأ القلب سعادة.
رمضان قادم، وفي يقيننا -بإذن الله- أنه سيكون فاتحة خير، ولطف بالعباد كما يلطف بالطير، تلك الطير التي تذهب خماصًا وتعود بطانًا، تذهب وهي موقنة بأن الله سيرزقها، مع أنها لا تعلم هل ستصيب شيئًا أم لا، لكنها بيقينها بالله توقن بأنه لا يرد راجيًا، وهي (أي الطير) تبذل جهدًا متنقلة بين الأشجار قلة أو كثرة، في أرض فلاة، أو بين أغصان مورقة مثمرة متشابكة.
قبل ستين عامًا أو أكثر كان بعض سكان القرى في المملكة، وربما في غيرها، يربون بعض الأغنام للحصول على اللبن، وصناعة مشتقاته، وبعد صلاة العصر يكون هناك راعٍ يجمع الأغنام من المنازل، ويذهب بها خارج القرية، وقريبًا منها، ثم يرجع قبيل المغرب؛ ليدق أبواب المنازل، ويدخل الأغنام إلى بيوت أصحابها. وقلما تعود تلك البهائم خالية الوفاض؛ فهي تجد رزقها من حيث لا تحتسب؛ لأن لدى المالك والراعي يقينًا بأن الله سوف يدلها على بعض القوت الذي تملأ به جزءًا من معدتها.
اليقين يغيِّر كثيرًا من الفكر؛ لأنه يبعث الطمأنينة والرضا، ويزيل الكثير من الهم والشقاء.. وحسبك بالقرآن في شهر رمضان جليسًا ومرافقًا وأنيسًا؛ ليعينك على اليقين.. وبالله على نوائب الدهر نستعين؛ ليقر في سويداء القلب زاد من الطمأنينة، لا يضاهيه في لذته زاد.
يقول أحد الشعراء مخاطبًا أحدهم:
إذا معشر ألهاهم جلساؤهم
فلهوك ذكر والجليس كتاب
اليقين بأن هذا الكون من خلق الله، وأن ما يحدث فيه من تدبيره، واليقين بأن ذلك حق لا ريب فيه، فما بعد ذلك أسى، ولا نظر بغير الرضا، وحسبنا بالله هاديًا ودليلاً.
محمد رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى الطائف، وعانى ما عاناه، وعاد وقلبه مليء بالإيمان، وظل متيقنًا من نصر الله، ثم ذهب إلى المدينة المنورة، ولم تكن الأمور ممهدة له ومرسومة، لكن كان اليقين يملأ قلبه -صلى الله عليه وسلم-، ودخل غزوة بدر وانتصر؛ لأنه كان متيقنًا من نصر الله، ودخل غزوة أُحد ولم يكن النصر حليف المسلمين، لكنه -صلى الله عليه وسلم- ظل متيقنًا من نصر الله، بل زاده ذلك يقينًا، ولم تغرِه الانتصارات، ولم تثبطه النوائب.. كان اليقين يملأ قلبه، وهو يرفع يديه إلى السماء يدعو الله، ويتضرع له، وهو رسوله الذي اصطفاه.
زرع - صلى الله عليه وسلم - في نفوس أصحابه اليقين؛ فسار بهم إلى مكة؛ فكان الفتح المبين، وظل هذا الدرس ماثلاً أمامهم؛ ففتحوا الديار، ونشروا الإسلام، وحاربوا أقوامًا كانوا أكثر منهم عددًا وعدة، لكن اليقين بنصر الله كان هو الوقود الذي سيَّرهم إلى هناك، وكان الدعاء هو وسيلتهم وسهامهم في الليل، إضافة إلى ما أفاء الله عليهم من أدوات مادية تساعدهم في بلوغ غايتهم النبيلة.