اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن الأوامر التي صدرت مؤخراً لمنع التجمعات التي يُقصد منها جمع التبرعات بقدر ما أوصدت الباب في وجه المغالاة في الديات والتكسّب غير المشروع بقدر ما صوّبت مسار التبرع، ونأت بالمعروف عن المن والتشهير المرفوض، علاوة على أنها فعَّلت دور العاقلة وفتحت الباب للتوسع في هذا الدور عن طريق الصناديق التعاونية وما في حكمها من الصيَغ ذات السمة التكافلية والطابع التضامني على نحو يستفيد من الانتماءات الاجتماعية، وينسجم مع روح العصر ومتغيِّرات الزمان والمكان.
ومن المعروف أن الأصل في مفهوم العاقلة هو عصبة الشخص من الذكور، وهم قرابته من جهة الأب، وتنقسم إلى عصبة نَسَبِية وأخرى سببية، والأولى هي قرابة الدم والثانية ذات سبب حكمي كالعتق، ومهما تعددت تعريفات العاقلة وضاق مفهومها أو اتسع فإن حقيقتها وماهيتها تدور حول النصرة والإعانة والغرم ودفع الدية، ووجوب الدية على العاقلة يغذي وشائج القرابة ويوثّق روابط الأخوة بين أفراد العصبة، ويجعل كل فرد منها مسؤولاً عمَّا يتحمّله أحد أفراد عصبته في حالة القتل شبه العمد والقتل الخطأ.
والعاقلة ذات مدلول واسع يشمل كل مَنْ يقوم بالإعانة ويضطلع بدور النصرة بما في ذلك الصناديق التعاونية والتأمين التعاوني بقسميه البسيط والمركب، حيث ينطبق اسم العاقلة على كل ما يقوم مقام العصبة من صيغ التعاون والتكافل ذات التطبيقات المعاصرة التي تستجيب لمقتضيات العصر ومستجدات الزمان والظروف والأحوال.
وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله عنه كان التعاقل يتم بالعصبة، باعتبار النصرة لا تتم إلا بها، وجرى تحديدها شرعاً على أنها هي التي تتحمّل الدية وعليها يقع الغرم، وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتسع مفهوم العاقلة وجعلها على أهل الديوان دون أن يكون بينهم صلة قرابة، حيث يتعاقل الجند في كل مدينة، وينصر بعضهم بعضاً عندما يكون الجاني منهم، وإذا لم يكن منهم فالعاقلة هي العصبة، إذ إن النصرة تعود إليها بوصفها المعتبرة شرعاً.
ونظراً لأن العاقلة تدل في مفهومها الاصطلاحي والشرعي على تحمّل الدية ودفع الغرم فإن عمومية مدلولها يجعلها تتجاوز أصلها إلى ما هو أبعد منه، بحيث ينطبق اسمها على كل من يعين الجاني في دفع دية القتل الخطأ بالشكل الذي يحل محل العصبة ويقوم بدور العاقلة، مشفياً غليل المجني عليه وحاقناً دم الجاني من خلال جبر مصاب الأول والتخفيف عليه ومنعه من طلب الثأر، ونصرة ومساعدة الثاني في سبيل تحقيق ذلك.
وبما أن العاقلة تقوم على مبدأ المناصرة والمعاونة والعصبة بمفردها قد يصعب عليه الوفاء بما هو مطلوب منها، فإن اللجوء إلى عوامل مساعدة وبدائل تقوم مقامها وتفعل مفعولها وينطبق عليها مدلولها يعزِّز موقف العصبة، ويشيع روح التناصر والتآزر بين مختلف الجماعات والهيئات والمؤسسات التي يربط بين أعضائها روابط اجتماعية أو صلات مهنية أو ذات صبغة انتمائية.
وعلى أية صورة تكون صيغة التعاون فإنها تهدف إلى التكافل والتضامن من قبل مجموعة معينة لتقديم العون والمساعدة لأي عضو يتعرض لضرر أو يلحق به خطر شريطة أن يكون هذا التعاون جائزاً شرعاً ومقراً من قبل الدولة وخالياً من المحرّمات، وتعتبر الصناديق التعاونية التي تؤسس من قبل الأقارب صورة متقدِّمة لما تؤديه العصبة تجاه أفرادها، والتعاقل عن طريق هذه الصناديق يقود إلى ما يُعرف بالتأمين التعاوني والخروج من محيط القرابة الضيِّق إلى فضاء المشاركة الواسعة الذي يضم الأقارب وغير الأقارب.
وطالما أن هذه الصناديق تخدم الغرض الذي أنشئت من أجله، ومرخصة من قبل الدولة وتُدار بشكل صحيح ولها مردود اقتصادي فإن العصبة النسبية التي تربط بين أعضاء هذه الصناديق تمثِّل مرجعية شرعية قابلة للتطور مع الزمن عن طريق البدائل المطوِّرة لها التي تقوم مقامها دون أن تلغيها بالشكل الذي يجعلها تنصهر في البوتقة المدنية التي من خلالها يكون لها ريع تنموي ومشاركة فاعلة، تنقل نشاطها من الإطار الرعوي إلى الإطار التنموي ومن دائرة الانتماء الخاص والأفق الضيِّق إلى دائرة الانتماء العام والأفق الواسع.
والانتماءات العائلية والقبلية إذا ما اتخذت مسارها الصحيح وشكلها المريح، فإن العاقلة القائمة عليها لا تنفصل عن تلك القائمة على منسوبي المؤسسات المدنية عن الطريق التأمين التعاوني والصيغ المشابهة له، بل يخدم كل منهما الآخر ويسير التعاقل من خلالها جنباً إلى جنب بشكل يفضي في النهاية إلى تغليب الجانب المدني لكونه أعم وأشمل بالنسبة للتعاقل مع الأخذ في الحسبان أن دور العصبة يصعب على غيرها القيام به لأن الوشائج بين الأقارب تدفعهم إلى التراحم والتكاثر، إذ إن الصلة النسبية ذات جذور وفروع انتمائية تميز العصبة عن غيرها، لما يتمتع بها أفرادها من صلة الرحم وروابط القربى التي تعلو فوق المصلحة الخاصة وقاعدة الغرم بالغنم.
وأولئك الذين يحاولون النيل من الانتماء القبلي متهمين إياه بأنه عائق في طريق التعاقل عبر المؤسسات المدنية إلى الحد الذي دفع البعض إلى التجني على هذا الانتماء بالتعصب ضده دون أن يدركوا مرجعية هذا الانتماء بالنسبة للتعاقل، والصور والتطبيقات المعاصرة لا تلغي الأصل وإنما تقوم مقامه، حيث إن الأخذ بالوسائل والأساليب المعاصرة عادة ما يراعي ذلك ثوابت الأصالة والمرجعية الشرعية.
والتحول من التعاقل بالعصبة في إطارها الضيِّق إلى التعاقل عبر الصيغ والبدائل التي تقوم مقامها في محيطها الواسع لم يتم ذلك إلا لقيام الحاجة إلى من ينوب عن العصبة، مما يجعل التحول مكملاً لها وليس على حسابها بالإضافة إلى أنها الأصل الشرعي والمرجعية تعود إليها انطلاقاً من أن المقياس الحقيقي في تحديد العاقلة هو المعاونة والمساندة، وإن طغت فضائل الفروع على الأصل فالفروع نتاج الأصل والفضل يرجع إلى المبتدئ مهما كان المقتدي.
وفي هذا الزمن الذي تراجع فيه الانتماء القبلي في عدد من الدول الإسلامية، وتفتت هذا الانتماء وانعدم في معظمها مما ترتب عليه اندثار دور العاقلة واختفائه في تلك الدول في الوقت الذي أصبح فيه الإنسان عرضة للكوارث والمآسي التي إن لم تكلفه حياته كلفته خسائر لا قبل لها بتحمّلها، كما هو الحال بالنسبة لحوادث وسائل النقل المختلفة وغيرها من الآفات التي تقف العاقلة عاجزة أمامها عن القيام بما هو مطلوب منها من الديات والحمالات تجاه أفراد عصبتها عندما يطلب منها أن تتكفّل بدفع ما يتحمّلونه من ديات القتل شبه العمد والقتل الخطأ وغيرها من الخطوب والمصائب التي يسري عليها حكمها.
وحيث إن العاقلة ليست هي المقصودة بذاتها وإنما المقصود هو النصرة والتعاون التي بموجبها تتحقق أهداف العاقلة، وعلى ضوء المستجدات ومتغيِّرات الزمان والمكان، وانسجاماً مع روح العصر فإن ثمة صوراً وتطبيقات للعاقلة لا غنى عن الاستفادة منها، وتتمثَّل في الصناديق التعاونية والتأمين التعاوني والمؤسسات المدنية ذات الصبغة الاجتماعية والطابع المهني والضمان الاجتماعي وكل عمل مشروع يتحقق بفضله التعاون والتكافل، ويتم اللجوء إلى هذه البدائل إما من قبل العصبة التي تتحمّل الدية أو عند عدم وجودها وقيام الحاجة إلى من يحل محلها.