عبدالعزيز السماري
من أكثر التهم جاهزية وشيوعاً تهمة الأدلجة، وهي أقصر الطرق لإقصاء المخالف من الساحة، وهي قضية قديمة قدم الصراع الإنساني، فأصحاب المذاهب الهدَّامة كانوا في التاريخ أولئك الذين لا يتفقون مع الغالبية، والشاهد هنا أن كل مجموعة تهتم بالشأن العام لديها أيديولوجية، وهي مؤدلجة بفكرة ما، وهي طريقة أخرى للقول إن كل شخص لديه قيم يؤمن بها أو تفسيرات يعتقد أنها الطريق الصحيح لهذا العالم، وليس هناك شيء خاطئ في ذلك إذا لم تتجاوز محظورات القانون..
وسبب ذلك أن مختلف المواقف الأخلاقية والإيمان بمنظومة قيم لا يخضع للبحث العلمي أو لتجربة ما، ولكن يتفق عليه الناس، ويرفعون من قيمته، ومثال ذلك أن الناس يهمهم العيش في استقرار ورغد، ولذلك تجدهم يمجدون الوطن الذي يعمل جاهداً على توفير ذلك لهم، وفي أغلب الأحيان لا يهتم الناس أو العوام بالاختلاف الأيدولوجي في المجتمعات، لكنهم ينتصرون لمن يلبي طلباتهم..
خلصت ورقة شهيرة للعالم السياسي فيليب كونفيرس بعنوان «طبيعة أنظمة الاعتقاد في الجماهير الجماهيرية»، إلى أن طبيعة تلك الأنظمة العقائدية أنها لم تكن بالفعل أنظمة على الإطلاق، فقد كانت الغالبية العظمى من الأميركيين خالية من أي شيء يشبه الأيديولوجيات الليبرالية أو المحافظة المتماسكة، وفي الواقع، يستطيع فقط «حوالي 17 في المئة من الجمهور تحديد المصطلحين» ليبراليين» و»محافظين» بشكل صحيح للأحزاب ويقولون شيئًا معقولًا بشأن ما تعني هذه المصطلحات.
وهذا لا يعني أن العوام ليس لديهم آراء، ولكن لا تصل إلى ولاءات الأحزاب والجماعات المسيّسة، فالأطر الإيديولوجية المتماسكة داخليًا التي تحرك أنشطة السياسيين والنقاد لا يراها العوام بوضوح، وقد يكونون صيداً سهلاً في معارك المؤدلجين سياسياً، وقد يكون الأمر مقبولاً إذا كان الخطاب سلمياً، ولا يدعو إلى العنف أو التفرّق على أسس طائفية أو إقليمية أو عرقية.
وهو ما قد يفسر ظاهرة الجهل الأيدولوجي في المجتمعات الشرقية، ويجعل من الثقافية السياسية في الشرق تعاني من التسمم الطائفي أو العمل لمنظومة فساد، وقد تكون هذه الظاهرة أوضح في العراق على سبيل المثال، فالمواطن يجهل ما خلف الأحزاب المؤدلجة بمصالح قد تصل إلى خارج البلاد، لكن الخطاب المؤدلج يقدّم لهم الجزرة، والتي تعني حلول البطالة ورفع مستويات العيش، وبعض من الحريات.
الاختلاف أن العنف كظاهرة سياسية في طريقه للانحسار، فقد خسر المعركة، فالتأييد الجماهيري له في غاية الضعف، فما يخلف من دمار وهلاك يهدّد حياة المجتمعات كما يحصل في سوريا وليبيا، وسيكون المستقبل للسلام ولخطاب السلام، فالموضوعية في التعبير ستأخذ طريقها إلى المقدمة، وهو تحول تاريخي في ثقافة هذه المنطقة التي قامت على دورات من العنف والسلام على مدار أكثر من ألف عام.
ومهما حاولت الأيدولوجيات أن تتحدث مع الناس من خلال قناع إلا أنها لا بد أن تكشف عن وجهها الحقيقي في كثير من الأحيان، ومع تقدّم موجات قنوات التعبير قد تضعف أمام الحقيقة، وقد تختفي، ولكن بعد زمن طويل، وقد يكون خيارهم أن يغيّروا بعضاً من جلودهم أو تطوير خطابهم، ومن ثم محاولة التكيّف مع الخطاب العام، ومثال ذلك جماعة الإخوان والمتوقّع خروجها من السرية إلى مرحلة مواكبة الخطاب العام، وقد نجدهم في زمن قريب في مصاف الليبراليين، وهو ربما تقدّم في اتجاه الحريات، ولكن أيضاً يدخل في إطار الأيدولوجية..
ختامًا ليست الأيدولوجية ما يبحث عنه الناس، فغالبيتهم لا يكترث لهذه التفاصيل، لكن يهمهم في المقام الأول الاقتصاد وتوفر فرص العمل، وسيادة القانون، وإذا تحققت هذه الأهداف ستبدو لهم تلك الأيدولوجيات مجرد ترف فكري وربما مغامرات غير محسوبة، وكلما ساءت أحوال الحياة أصبح تجنيدهم في المجهول أكثر سهولة وأقل عناءً..