فوزية الجار الله
لا أدري تحديداً منذ متى بدأت اعتزال الآخرين؟
«الآخر هو الجحيم» قالها سارتر، وحين بدأت أصطلي بذلك الجحيم بدأت خطواتي المعاكسة تدريجياً.. أصبحت أدرب نفسي على ثقافة الاستغناء.
أستغني عن المتع الخارجية بما أصنعه لنفسي عملاً بتلك العبارة «السعادة لا تأتي من الخارج، السعادة الأكثر بقاء وعمقاً هي تلك التي تصنعها بنفسك لنفسك»..
أعكف على رسم لوحة منذ زمن ولم أستطع إتمامها بعد، أشعر بالملل والتعب أتركها وأشغل نفسي بأمر آخر حتى أستعيد قواي..
اعتزلت الكثير من المناسبات، لكن المناسبة التي أحرص على حضورها هي الجنائز، أحرص على الحضور لإرضاء الله أولاً ومن ثم حضور مراسم وداع أحدهم إلى العالم الآخر، قد يكون أحد الأقرباء أو الأصدقاء أو الزملاء ممن أعرف بعضهم بالاسم فقط.. هل أصبحت قاسياً؟! لا.. لا أعتقد، لكنني لا أجد مبرراً كافياً لحضور الكثير من المناسبات والتواصل مع العالم وكفى!
أتنقل كثيراً، أسافر، أعاني أحياناً من بعض الأزمات المالية لكنني أحاول الخروج منها بشكل أو آخر، أحياناً أستدين بعض المال من بعض الأقرباء الطيبين وأحياناً أستطيع بيع بعض اللوحات الصغيرة عبر «الإنترنت» أو خلال إحدى الرحلات الخارجية في أحد الميادين للسياح، الناس هناك، في العالم الغربي عامة يقدرون الفن أضعاف ما يحدث في بلادنا، وهذا يساعدني كثيراً.
حالما أعود إلى البلاد أغلق النوافذ والأبواب وأكف عن الرد على الهاتف الخلوي حتى يكف هو عن الرنين..
تنطوي الليالي والأيام.. ومع مرور الوقت واستغراقي في تلك العزلة أصبحت منسياً.. نعم أصبحت كائناً مجهولاً!
أحياناً ينتابني حنين قاتل إلى بعض الأصدقاء وبعض الوجوه، لكنني لا أعلم كيف أصل إليها، بل أجد الأمر متعذراً وعسيراً فتنساب دمعتين سرعان ما تتوقفان حالما أفتح النافذة وأستمتع بنفس عميق، لا ينبغي لرجل أن يبكي!
تذكرت كل ذلك وأنا في حالة استغراق وتفكير في محاولة للتوصل إلى قرار مناسب، هل ألبي دعوة الصديق القديم أم لا؟
صديقي يدعوني إلى منزله الجديد وسوف يشاركنا المناسبة كثير من أصدقائنا القدماء.. أضرب أخماساً بأسداس وأنا أعكف على ورقة كانت بيضاء ثم ملأتها بالخطوط والأرقام والمعادلات وكثير من وجوه في شتى الحالات ما بين مبتسمة وحزينة وأخرى غاضبة..
هل أذهب وأكسر عزلتي أم أبقى كما أنا؟
الحقيقة أنني شعرت بسعادة لا حد لها مذ قرأت الرسالة عبر بريدي الإلكتروني، ليس ثمة ما يدعو للمكابرة، ثمة كريم يدعوك ولابد من تلبية الدعوة..
كنت أتسلى بكتابة الكلمات بأقلام ملونة: «هل العزلة موت والتواصل حياة»؟!
سؤال يطرح حقيقة أم حقيقة تحمل وهماً آخر يضاف إلى أوهام الحياة؟