د. محمد بن عبد الله المشوح
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام الأتمَّان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد يسَّر الله -سبحانه وتعالى- لي خلال سنيات عمري الماضية أنِ التقيت العديد من العلماء الأجلَّاء، والشخصيات البارزة علمًا وفضلًا وخلقًا، وكنت أسعى جاهدًا إلى لقائهم، والأخذ عنهم، والاستفادة من علومهم ومعارفهم وتجاربهم.
ومن أبرز ما يسره الله - سبحانه وتعالى - لي في تلكم الفترة الماضية أن أعددت لقاءً في إذاعة القرآن الكريم، اسمه: «في موكب الدعوة»، استمر سنوات عدة، التقيت فيه العديد من أصحاب الفضيلة العلماء والدعاة والمثقفين ممن كان لهم أثر بارز في حياة الناس.
وكنت إبان تلك الفترة وما بعدها حتى اليوم أسعى إلى اقتناص الفرص والغنائم من اللقاء، والأنس بأولئك.
وفي حدود عام 1430هـ التقيت الأخ الصديق الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله آل الشيخ، وسألته عن عمّه الذي سمعت عنه كثيرًا، وهو فضيلة الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله -، وقال لي: إنه يجلس ظهر يوم الجمعة، ويلتقي بعض زوَّاره ومحبيه؛ فضربت معه موعدًا بعد أن بيَّن لي موقع بيت الشيخ، وسعيت في تلك الجمعة بعد الصلاة إلى بيت فضيلة الشيخ محمد؛ لأني كنت أتوق إلى الجلوس معه؛ وذلك لأسباب عديدة، أولها: أنه من تلكم الشجرة الباسقة المباركة الفاضلة، وهم أسرة آل الشيخ، الذين كان لهم فضلهم وسبقهم ودرجتهم في الدعوة إلى الله -عز وجل- على يد الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب -عليه شآبيب رحمة الله عز وجل- مع الإمام المؤسس محمد بن سعود -رحمه الله -.
وثانيها: أنه حفيدٌ للعلامة الكبير الشهير الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله - وهو العلامة المعروف الذي كان له جهوده الكبيرة في الدعوة إلى الله -عز وجل-.
ومن المعلوم أن الشيخ عبداللطيف يعد أحد مجددي الدعوة، وله مكانته الكبرى بين علماء القرن.
ويعتبر من أقرب أسرة آل الشيخ درجة إلى الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب؛ فجده عبداللطيف، وهو نجل المجدد الثاني عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب.
وثالثها: ما سمعت عنه -رحمه الله- من علم وفضل، وملازمته العديد من العلماء الأكابر، وخصوصًا أن عمره آنذاك قد تجاوز الخامسة والثمانين عامًا. وحضرت في تلك الجمعة مجلسه، وعرّفته بنفسي، فهشَّ وبشَّ، وكنت قد أحضرت معي العديد من إصدارات دار الثلوثية آنذاك، منها كتاب: «علماء أئمة الدعوة»، وكتاب: «دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب» لحسين خزعل، وبعض الإصدارات الأخرى من الرّحلات وغيرها لشيخنا العلامة محمد بن ناصر العبودي.
فعرف شيخنا الشيخ محمد العبودي، وسأل عنه، وأخبرني بأنه التقاه قديمًا عند ابن عمه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-.
ووجدت في تلك الزيارة الأنس والطمأنينة، والمورد العذب من أخبار العلماء والصالحين.
وكنتُ لا أنقطع عن مجلسه الذي ترددتُ إليه بعد ذلك فترات طويلة؛ فكنت أتخول زيارته في كل شهر تقريبًا، أو في كل جمعتين أو ثلاث، أقوم بزيارته والسلام عليه.
وكان يحيط به ويجالسه عدد من أعلام وأعيان آل الشيخ، وعلى رأسهم أخوه الشيخ حسن بن عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، وهو صِنوه في الأخلاق والبشاشة وحسن السيرة، وأعجبني وبهرني ما يلازمهما من محبَّة وتقدير واستماع كل منهما إلى الآخر في مشهد يشرح الصدر ويثلجه لكل من يشاهده.
وكان الشيخ حسن -رحمه الله- الذي توفي قبل الشيخ محمد تقريبًا بثلاث سنوات لا يفارق جلسة أخيه يوم الجمعة، والشيخ حسن - كما هو معلوم - أصغر من الشيخ محمد بسنوات كثيرة، لكن الشيخ حسن كان خلال المجلس وكل من يشاهد الشيخ حسن -رحمه الله- في تعامله مع أخيه الشيخ محمد يلمس غاية الاحترام ودقة الإجلال له، وذلك من حسن سمته ووقاره وتأدبه مع أخيه، ويبعث دروسًا تربوية في التعامل بين الإخوة والعلماء.
وكان مجلسه كذلك يعمره عدد من أعلام وعلماء وأعيان أسرة آل الشيخ، الذين كانوا يتوافدون كل جمعة على مجلسه للسلام عليه، والاطمئنان على صحته، والاستماع إلى بعض فوائده.
وكان ممن يحضر كذلك ابن أخيه الشيخ عبدالملك بن عبدالله آل الشيخ -شفاه الله-، وهو أحد ملازمي سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، وتعرفت عليه في مكتب الشيخ عبدالعزيز سنوات طويلة؛ إذ كان من ملازميه، ومن قرَّاء الشيخ عبدالعزيز في مكتبه، ومن المسؤولين عن عـدد من الأعمال العلمية والدعوية في مكتب سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-.
وغيرهم من الشخصيات من آل الشيخ الذين كانوا يتوافدون على مجلس الشيخ محمد، وبعضهم أعرفه، وبعضهم لا أعرفه.
وممن كان يلازم مجلس الشيخ محمد، ويحضر دومًا للسلام عليه والاطمئنان عليه، معالي الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، والشيخ محمد يكون عمه؛ لأن الشيخ عبداللطيف والده هو الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن - رحمه الله -، وكان يحضر للسلام على عمّه الشيخ محمد.
وكان ممن يحضر وشاهدته مرارًا معالي الشيخ محمد بن حسن بن عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، وهو عضو اللجنة الدائمة للإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء، وهو نجل الشيخ حسن الذي أشرتُ إليه قبل قليل. رحم الله الجميع، وحفظ من بقي.
وغيرهم من العلماء الأجلاء من أسرة آل الشيخ، ومن الأسر الأخرى، ومن العلماء الذين كانوا دومًا يقومون بالواجب اللازم تجاه هذا العالم الجليل.
لقد أشرتُ قبل قليل إلى أن الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل الشيخ - رحمه الله - هو من الرعيل الأول، ولا بد هنا أن أتوقف عند والده الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب المولود في عام 1288هـ - رحمه الله - في الرياض، الذي توفي في عام 1366هـ، وتولى القضاء في أماكن عدة، ووالده الشيخ عبدالرحمن كان يتيمًا وهو ابن خمس سنين، فكفله أخوه الشيخ عبدالعزيز، وحين بلغ سبع سنين ذهب به أخوه إلى الشيخ المقرئ عبدالرحمن بن فيريج؛ فحفظ القرآن الكريم، وطلب العلم على أخيه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ حمد بن فارس - رحمه الله -.
وقد عُيِّن الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف قاضيًا في ساجر في منطقة السر بنجد، وشارك مع أهلها في العديد من الغزوات، ثم في عام 1342هـ عُـيِّن قاضيًا لبلدة عروى التي كان أميرها جاجاه بن حميد، ثم بعد ذلك كان له جهود علمية ودعوية في المناظرات مع بعض العلماء في الحجاز عام 1343هـ، و1348هـ.
وفي عام 1350هـ نُقِلَ إلى قضاء الخرج، واستمر فيه إلى أن طلب الإعفاء لكبر سِنّه عام 1357هـ؛ فعاد للإقامة بمدينة الرياض، وصار خطيبًا للجامع الكبير فيها.
وكان الشيخ عبدالرحمن من كبار العلماء في زمن أخيه سماحة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وكان له جهوده في العديد من الأعمال والجهود في ذلك، واستمر على هذه الحال الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف عالمًا وقاضيًا وداعيًا إلى الله -عز وجل- حتى أتاه الأجل عام 1368هـ عن عمر يناهز الثمانين عامًا، فكان -رحمه الله- ممن كان لهم جهودهم في ذلك.
وترجم له العديد من العلماء، وعلى رأسهم الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ في كتابه: «مشاهير علماء أهل نجد»، وكذلك الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه: «علماء نجد خلال ثمانية قرون».
سألتُ الشيخ محمد بن عبدالرحمن عن مولده فأشار إلى أن مولده كان عام 1343هـ؛ لأنه سألني قبل ذلك عن شيخنا الشيخ محمد العبودي، وقال: متى كان مولده؟ فقلت: إن مولده كان عام 1345هـ، وقال لي آنذاك كلمة: إنني أكبر منه بسنتين؛ لأنني من مواليد 1343هـ.
لقد شارك الشيخ محمد بن عبدالرحمن مع والده في العديد من المهام، وخصوصًا في النهل منه، وفي السير على خطاه في العلم، والدعوة إلى الله - عز وجل -.
وعمل الشيخ محمد في العديد من الأعمال والمسؤوليات في التعليم والدعوة، والمرور على العديد من القرى والهِجر، وتعليمهم ونصحهم وإرشادهم وتوجيههم.. وتنقَّل في عدد من المسؤوليات، حتى طلب الإعفاء وتقاعد، وتفرغ في بيته للعلم والدعوة إلى الله - عز وجل -.
لقد كنت طوال تلك السنوات العشر تقريبًا أسعى جاهدًا إلى الاستفادة منه، وخصوصًا في سؤاله عن بعض الشخصيات التي عاصرها وأدركها من العلماء من أسرة آل الشيخ، وغيرهم، وكان دائمًا يُتحفني بفوائده ولطائفه ومعلوماته الغزيرة عنهم. وكان ممن سألته عنهم، وأجريت معه لقاءً عنه كذلك، الشيخ عبدالملك بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- المتوفَّى 1404هـ، وهو ابن عمه الذي أزمع أن أكتب كتابًا يصدر قريبًا -بإذن الله تعالى- عنه.
فأجريتُ معه لقاءً، أعطاني فيه بعض الفوائد عن الشيخ عبدالملك، وعن أخيه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وعن أخيهما أيضًا الشيخ عبداللطيف، والشيخ عبدالله. وهم -كما هو معلوم- جميعًا أبناء عمّه الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف.
وأيضًا كنتُ أسأله أيضًا عن بعض الشخصيات التي مَرَّ عليها حينما ينتاب الحديث عن علماء الدعوة وأثرهم.
وممَّا استفدته منه أيضًا -رحمه الله- حرصه على الكتاب؛ فكنت كلما حضرت إليه كان يسألني: ما الجديد لديكم؟ وماذا عندكم من الكتب والإصدارات للشيخ محمد العبودي؟ وكان يتأمل هذه الكتب، وكان يفرح كثيرًا بكل كتاب أحضره، وكذلك أخوه الشيخ حسن -رحمه الله-.
وكان -رحمه الله- دومًا في مجلسه يذكِّر الحضور بما مَنّ الله على الجميع من نعمة الأمن والطمأنينة بسبب هذه الدعوة المباركة التي تقيم شرع الله، وتطبق حدوده.
ويذكِّر كذلك بمواقف الملك المؤسس، وما لقيه من تعب ونصب في سبيل توحيد هذه البلاد، وجمع كلمتها على البر والتقوى.
وفي يوم السبت الأول من شهر شعبان لهذا العام 1440هـ توفي -رحمه الله-، وتمت الصلاة عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله، ودُفن في مقبرة العود بجوار آبائه وأجداده، وعاش -رحمه الله- ما يقارب الثامنة والتسعين من عمره في حياة مديدة من العلم والدعوة إلى الله -عز وجل-.
وتأسفتُ كثيرًا على وفاته؛ لأنني كنتُ أجد فيه السمت والوقار، وصورةً حقيقية لعلماء الدعوة إلى الله -عز وجل-.
وكانت آخر زيارة لي قبل نحو سبعة أشهر عندما دَبَّ فيه المرض، وأنهكه؛ فدخلت عليه في غرفة داخلية في بيته، وكان معي بعض من خاصة آل الشيخ وأبناء إخوته، وعلى رأسهم معالي الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ.
وكنتُ أظن أنه لن يعرفني بعدما أنهكه المرض، فلما دلفت عليه وهو على سرير مرضه إذا به يفاجئني ويحيِّيني باسمي؛ فأدركت هنالك أنَّ لديه وعيًا تامًّا بمن يزوره، وأدركت كذلك محبته وتقديره لشخصي الضعيف لما خصني به من الترحيب والتعيين باسمي. رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.
وفي الختام فإنني أشكر الله -سبحانه وتعالى- أن منَّ عليَّ باللقاء بهذا العالم الجليل الذي أمضى حياته وعمره عِلمًا وفضلًا ونفعًا للناس في سيرة حميدة بعيدة كل البُعد عن كل ما يضيع حياة المرء أو يهمشها.
وخلَّف من بعده -رحمه الله- أنجالًا كرامًا، يطوقونه ببرهم ومحبتهم، ساروا على نهجه في السمت والوقار وحُسن الأدب والخلق، وعلى رأسهم الصديق الشيخ الدكتور صلاح بن محمد بن عبدالرحمن آل الشيخ الذي عُيِّن مؤخرًا إمامًا وخطيبًا لجامع دخنة، المعروف حاليًا بجامع الشيخ محمد بن إبراهيم، الذي تعاقب عليه العديد من علماء آل الشيخ من آبائه وأجداده، وكان تعيين الشيخ صلاح بن محمد بن عبدالرحمن آل الشيخ هو امتداد لهذه الشجرة المباركة لمدة تزيد على مائتي عام، كانوا يتعاقبون على الإمامة والخطابة في هذا الجامع.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفر لشيخنا الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل الشيخ، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجمعنا وإياه في جنات النعيم، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.