عبده الأسمري
يتبختر ويتمظهر الأثرياء بأرصدتهم المالية ويجندون مكاتبهم ووسائل تواصلهم في التباهي بالرصيد والتماهي بالصفقات ويتنافسون في إعلان الثراء الذي يقيد برقم ويجير بعدد ثم لا يلبث أن يتلاشى في صفقة خاسرة أو زكاة مغيبة أو دعوة عاجلة.. وقد يكون إرثًا لآخرين يتسلمونه على الجاهز أو مكمن اختبار للذات لكشف الإنفاق أو التقتير أو الشكر أو النكران.
على جانب معاكس يمضي بعض البشر في حياته ويقضي وقته بين الكتب ووسط الأوراق ينمي مواهبه ويسمو بمهاراته ويرتقي بعقله فيجعل بينه وبين الجهل سدًّا منيعًا ويضع بين وقته وفراغه برزخًا فيخصص الفراغ لراحة الذهن وإراحة الجسد حتى يعيد «الكرة» ويستعيد «الهمة» ليكتب مشهد «المعرفة» بخطوط متينة من التقدير للكلمة والاحترام للعبارة والتعبير للنص.. ويرسم خارطة «الثقافة» بحدود واضحة حبرها «القراءة» وجبرها «الاستقراء» حتى يصل بفكره إلى مستوى «التحليل» ويمضي برؤيته نحو مسار «التأليف»..
لم ينتظر الأدباء والعلماء والمفكرين والفلاسفة قائمة صنعتها «جهة» لا تلتزم الحياد أو «قطاع» يكتب الأسماء وفق الدفع كما هو الحال في أثرياء المال ووجهاء المناصب ولكنهم خطوا أسماءهم ونقشوا أثرهم في صفحات التاريخ أجمع وعلى سجلات الحياة ككل وظلت أسماؤهم «وسمًا» على سواعد العطاء و»نقشا» على لوحات الشرف.
العلم والمعرفة أساسان لجودة الحياة.. وتبقى «الثقافة» العرس المعرفي الذي يحتضن «الباحثون» عن التفكير و»اللاهثون» خلف «التدبير».. وقد تمكن الحالمون والمتيمون بالتعلم من رفع رصيدهم وسيظلون يملأونه بالمخزون العلمي في زمن يفتح ذراعيه لمن يعانق البحث ولمن يعاقر النقاش بحثا عن ضالة الذات لنيل المنى وكسب المنتج وجني الثمار تحت مظلة «العلوم» بشتى أصنافها واتجاهاتها ومجالاتها.
كم من الأثرياء معرفيًّا وثقافيًّا والذين لم تطلق عليهم ألقاب الثراء لخلل في التقييم وخطأ في التصنيف من المجتمعات في ظل الاعتراف بأصحاب المال وذوي الجاه ونسيان من أكملوا كل فراغات التساؤلات الإنسانية والبشرية والحياتية منذ بزوغ فجر الحياة وسيظلون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
الثراء الثقافي هو المبتغى والمنتهى الذي يطمح إليه أصحاب العقول النيرة وهو المراد والسداد الذي يرجوه مالكي الهمم المستنيرة..
يقود الثراء الثقافي إلى خلق مساحات من الإثراء المعرفي المشفوع بالنتائج المثمرة للأدب والعلم وإلى حياكة رداء فضفاض من المعرفة ونسج جلباب مطرز بالتجديد معزز بالتسديد.
يضيع الجاهل وقته ويهدر الفارغ زمنه في التفاهات والمهاترات والترهات وقد يقضي الطامع بالدنيا الجشع للدنيوية عمره وهو يلهث خلف سراب الوهم وقد يجمع المال ويكنز الحلي ويكتنز الغنى ولكنه يظل رقما مجهولا في معادلة الموضوعية ومتراجحة النموذجية.
رحل عن عالمنا «أثرياء» ثقافيًّا لا نزال نقتفي أثرهم بحثًا عن: مقولة «وتنقيبًا عن «قول» وتمحيصًا بشأن رأي وتعقيبًا على «مسألة».. غادرت أجسادهم دائرة الحياة ولكن إنتاجهم ظل «ناطقا» بالأثر مستنطقا بالتأثير..
الرصيد الثقافي المديد لا نهاية له ويبقى مضاد للخسائر مقاوم للمتغيرات يوزع بالمجان ولا يباع ورقمه السري «متاحا» للجميع ممن استحب السحب منه والحفاظ عليه بل وإنه مهيأ للكسب وجاهز للربح ومجهز للنماء في تجارة رائجة رابحة رأس مالها الدافعية وقوامها الاستمرارية ونتاجها المكاسب العلمية والثقافية والمعرفية.
الثراء الثقافي هو ضالتنا التي يجب أن تملأ خزائن العقل ومخازن الفكر بإضاءات الدراسة وإمضاءات الاختبار وومضات التفوق وهو المنبع الذي لا ينضب والذي يملأ أركان التعامل واتجاهات العيش بالإثراء المعرفي الذي ينتقل من شخص إلى آخر ومن جماعة أخرى ويورث من جيل إلى جيل ويتعاقب بين حقبة وأخرى.
ومن أعماق التقصي إلى آفاق الاستقصاء يجب أن نتعلم ونتقن ونتفنن في ملء الرصيد الثقافي إلى حد الثراء الفاحش في همة «تنافسية» وصولا إلى «قمة» استثنائية تملأ الزمان والمكان بالإثراء المعرفي الذي يسهم في صياغة الحاضر وصناعة المستقبل.