د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
استضافت جمعية الصحفيين السعوديين قبل عدة أشهر وفداً صحافياً جزائرياً، ودار بين الجانبين حوار مطول وصريح وأخوي دعم فيه أخوتنا الجزائريون وجهة نظرنا حول حرب اليمن والدور المخرب لإيران في المنطقة. ما أبدته أغلبية الوفد الجزائري من اهتمام بمشاكل منطقتنا ينبع من إيمانهم بالروابط بين البلدين والدور الذي تلعبه المملكة في استقرار المنطقة. اليوم تعصف بالجزائر أحداث كبرى، لكننا كصحفيين سعوديين لم نبد الاهتمام المطلوب بما يجري فيها رغم أهميته، فالجزائر بعيدة عنا جغرافيًا ولكنها قريبة منا تاريخيًا وسياسيًا وعاطفياً.
وتعد حركة النضال الجزائري ضد فرنسة الجزائر مثالاً للتضحية من أجل الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، ولكن يذكر الآن أنه وبعد اتفاقية إيفيان عام 1962م، عام الاستقلال، ظلت فرنسا تتدخل بشكل خفي في الجزائر بتحييد مناضلي الداخل ودعم مناضلي الخارج. فالخلافات ظهرت حول هذه الاتفاقية من بدايتها بين أعضاء الجبهة الوطنية أيضاً وكان هناك صراع خفي حول السلطة لم تنفك منه الجزائر حتى اليوم. فما يحدث اليوم في الجزائر لا يمكن مقارنته بما حدث في بلدان عربية أخرى، ولا يمكن إطلاق وصف الربيع العربي عليه، لأن تاريخ الجزائر بعد الاستقلال وعلى مدى خمسين عاماً تاريخ حافل بالصراعات بين أجنحة القوى العسكرية.
تاريخ الجزائر هو تاريخ الجيش الجزائري الذي تأسس على بقايا القوات المناضلة ضد الاستعمار وأصبح له وجه سياسي هو الجبهة الوطنية للتحرير. ورؤساء الجزائر منذ استقلالها حتى اليوم معظمهم عسكريين باستثناء بن بيلا وبوتفليقة. فهواري بو مدين الذي حكم الجزائر إثر انقلاب بعد اتهام بن بيلا بالديكتاتورية من 1965 –1976، كان وزيرًا للدفاع، وبوتفليقة كان وزير خارجيته. وهناك كثير من التساؤلات حول دور بو مدين الحقيقي حيث إنه مكّن ما يسمون بضباط فرنسا من الجيش الجزائري رغم أنه أظهر وجهًا عروبيًا اشتراكيًا، وكان ديكتاتورًا فعليا وفي عهده بدأ التعريب، وانتفاضات البربر، وتصفية أعضاء بارزين من الثورة الجزائرية من ضباط الداخل. خلفه الشاذلي بن جديد، والأمين زروال وكلاهما أرغم على الاستقالة، وفي عهد الأخير تفاقمت الاضطرابات في الجزائر بقيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقيادة عباس مدني وعلى بالحاج، ودعم من إيران. ويقال إنه مات في هذا الصراع الذي امتد لعشر سنوات حوالي 200 ألف جزائري.
غيب الاغتيال في عام 1992 محمد بوضياف الذي كان أمل الجزائر للاستقرار سياسي، حيث كان الرئيس الأكثر شعبية وديمقراطية في تاريخ الجزائر وكونه مناضل سابق وشخص نزيه حاول التقرب للشعب بكافة أطيافه وإحلال التعددية السياسية.
بعد استقالة الأمين زروال مبكرًا في عام 1999م للتهيئة لانتخابات جديدة رجع كثير من القادة الجزائريين من المنفى منهم بوتفليقة وآيات أحمد وغيرهم، ومرت الجزائر في هذا العام بانتخابات شارك فيها الجميع، وانتهت بتنصيب بوتفليقة وانسحاب جميع منافسيه احتجاجًا على عدم نزاهة الانتخابات. ومرت الجزائر بفترة ازدهار في بداية عهد بوتفليقة نتيجة لارتفاع أسعار النفط مما سمح باستمرار حكمه لعشرين عامًا حيث حكم لأربع فترات بالرغم من مرضه. وقد مارس بوتفليقة سياسة توازنات ذكية بين أجهزة الأمن والمخابرات بقيادة الجنرال محمد مدين (توفيق) والجيش. وبالطبع كان الفساد متفشيًا في الجزائر قبل إقالة بو تفليقة وارتبط بمراكز قوى لها علاقة بالجيش. وتم العبث بالدستور لأكثر من مرة، آخرها للتمديد لبوتفليقة حتى عهدة خامسة.
مرض أبوتفليقة أتاح للمقربين العبث بالبلاد بمساعدة بعض التجار، مما دفع بحراك جديد بشكل أقوى وأشمل من السابق. وانقسم الجيش والمخابرات حول أمر إقالته. تمسك الجيش بالسلطة وتم إعفاء رجل المخابرات القوي توفيق وكل الداعمين له، وتولى نائب وزير الدفاع الجنرال أحمد قايد 80 عامًا من العمر السلطة، وتمت إقالة بوتفليقة فدخلت البلاد فراغًا سلطويًا. ولكسب تعاطف الشعب أعلن أحمد قايد صالح خطوات ذاتية لمواجهة الفساد فاعتقل التجار المحسوبين على توفيق وعلى معارضي سلطة الجيش، وأعلن توجيه القضاء، وهو نائب وزير دفاع لمحاكمتهم بالرغم من وجود رئيس حكومة صوري. الجيش يعلن تسليم السلطة فقط في انتخابات مستحقة في 4 يوليو رغم عدم وجود مرشحين للحراك، ورغم الاعتراضات على الدستور الحالي. الحراك يطالب بتسليم السلطة لحكومة مؤقتة مستقلة عن الجيش وتعيين لجان مستقلة لكتابة دستور تعددي جديد بما في ذلك قوانين الانتخابات لإتاحة الفرصة لتقدم مرشحين مستلقين للحراك. الحراك يدرك أنه لا يوجد في الجزائر أيّ مؤسسات منظمة حاليًا سوى الجيش ولذا فمن المؤكد أن مرشحيه سيفوزون بالانتخابات إذا تمت بعد 3 أشهر. الوضع القائم الآن وصل إلى طريق مسدود بسبب عدم ثقة الشعب في الجيش الذي حكمهم بشكل خفي لفترة 50 عاماً فيما بعد الثورة، وعدم رغبة الجيش في ترك السلطة.