تأخذك موسيقى رياض السنباطي (1906 -1981م) بعيدًا بإيقاعاتها الأصيلة الوقورة، ونسيجها المحكم، وزخارفها الجميلة.. هذه الموسيقى التي أخذت بيد الأغنية العربية، وخرجت بها من أسر الرتابة والابتذال إلى عالم من الرقي الذوقي والجمالي لحنًا ولفظًا. ولقد تميز السنباطي عن معاصريه تميزًا ملحوظًا في الأغنية الدينية، تلحينًا وغناء، باللغة الفصحى أو بالعامية المصرية، فلا زالت أغنياته الدينية حية في وجدان شعوب العربية، ومرشحة لأن تظل تنبض وتتنفس لأجيال.
عندما تستمع إلى ألحانه الدينية تنتابك حالة من الخشوع ممزوجة بالوقار، يكفيك أن تستمع إليه وهو يردد في خشوع وتبتل بصوته الرخيم: (ربي سبحانك دومًا يا إلهي.. نغمة تسري بقلبي وشفاهي) من كلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل. أو استمع إليه وهو يردد في ابتهال وتضرع حاشدًا حواسه في ورع ونسك: «إله الكون.. سامحني أنا حيران.. جلال الخوف يقربني من الغفران.. وسحر الكون يشاورلي على الحرمان.. وأنا إنسان يا ربي.. أنا إنسان».
تأتي هذه الأغنية «إله الكون» على قمة الغناء الديني للسنباطي أداء ولحنًا وفكرًا؛ فهي تجسد ضعف الإنسان، وهواه، وحيرته بين التزامه أمام خالقه، وتأثره بجمال مخلوقاته. ولأنه إنسان، لا ملاك ولا شيطان، يطلب من الله أن يسامحه. غناها السنباطي بأداء مفعم بالضراعة والانكسار، وامتلأ اللحن بالانتقالات النغمية المسبوكة بعناية، والمصاغة بإتقان، وساعدته على الخروج بهذه الصورة الرائعة كلمات الشاعر حسين السيد (1916 -1983م).
ولعل الأغنية الأخرى التي تضاهيها جمالاً وخشوعًا من ألحانه، ومن كلمات حسين السيد أيضًا، غناء نجاة «إلهي ما أعظمك» (1963م). ولك أن تستمع إلى هذا المقطع منها حتى تستشعر حالة الخشوع والمناجاة في اللحن والغناء:
«إلهي ما أعظمك في قدرتك وعلاك.. إلهي ما أرحمك في غضبتك ورضاك.. إلهي ما أكرمك للعبد لو ناداك.. جلت صفاتك يا من لا إله سواك».
ورياض السنباطي الذي وُلد في مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط شمال مصر كان أبوه مقرئًا للقرآن الكريم، ومنشدًا دينيًّا، ألحقه بكتّاب لحفظ القرآن الكريم وتجويده؛ فتشرب الحس بالقرآن من صغره، بما فيه من الإحساس بالجمال صورة ولفظًا، ووقعًا وجرسًا، وخشوعًا ووقارًا.
ومما يذكر أن كتاتيب تحفيظ القرآن في مصر كانت تخرّج حفظة يقرؤون القرآن على المقامات الصوتية (الموسيقية)، والرعيل الأول من الملحنين والمطربين المصريين كانوا شيوخًا، ومعظمهم تربوا في الكتاتيب، كأبي العلا محمد، وسلامة حجازي، ومحمد القصبجي، وسيد درويش.. وغيرهم. وهناك مشايخ رواد قرؤوا القرآن بصوت عذب منضبط على المقامات الصوتية، وتعلم السنباطي منهم، أمثال: الشيخ محمد رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ طه الفشني، والشيخ علي محمود، والأخير كان أحد أساتذة محمد عبدالوهاب.
ويذكر الشيخ أبو العينين شعيشع، وكان نقيبًا لقراء ومحفظي القرآن في مصر، لجريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر بتاريخ 20 يوليو 2006م أن بيته كان مجاورًا لبيت الموسيقار رياض السنباطي، وكانا يتزاوران ويتدارسان معًا القرآن والموسيقى. وكان الشيخ يعلم رياض السنباطي القرآن، ويتعلم منه القواعد الفنية للموسيقى.
كل هذا لا شك ترك أثره في نفس رياض السنباطي ووجدانه؛ وهو ما انعكس على ألحانه الدينية؛ فأنتج كمًّا كبيرًا ومميزًا من القصائد والأغنيات الدينية، كانت بدايتها قصيدة «ولد الهدى» عام 1944م، التي لحنها للسيدة أم كلثوم، وهي من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي احتفاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبمولده، وكان مطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
ثم كانت الأغنية الثانية لأمير الشعراء أيضًا، وهي قصيدة «سلوا قلبي»، التي غنتها أم كلثوم عام 1946م. ومع أنها كانت في مدح النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم - إلا أنها كانت مفعمة بالروح الدينية والوطنية معًا، ومن أبياتها:
نبي البر بينه سبيلا
وسن خلاله وهدى الشعابا
وكان بيانه في الهدي سبلا
وكانت خيله للحق غابا
وافتتح السنباطي بهذه القصيدة وسابقتها مدرسته الخاصة في تلحين القصيدة العربية التي تربع على عرشها بلا منازع. ثم كانت رائعته الثالثة التي تعاون فيها مع أم كلثوم وأحمد شوقي، وهي قصيدة «نهج البردة» عام 1946م. وعن تلحين هذه القصيدة قال السنباطي في حوار نادر له مع تلفزيون الكويت: «إنه لا يعرف كيف لحنها، فلحنها لم يستغرق سوى ثلاث ساعات فقط»، وأن أم كلثوم لم تصدق أنه نجح في ذلك، فلما أسمعها مطلع الأغنية بكت.. ولما سألها عن سر هذا البكاء الشديد قالت: «إنها هزتني من أعماقي». فرد عليها السنباطي قائلاً: «وأنا أعترف لك أنني لا أعرف كيف لحنت (نهج البردة)، وإنما - والله على ما أقول شهيد - كنت أستمع إلى صوت شجي داخلي وأنا أردد وراءه، وتلك حقيقة؛ فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي!». ومن أبياتها:
لزمت باب أمير الأنبياء، ومن
يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
محمد صفوة الباري، ورحمته
وبغية الله من خلق ومن نسم
وفي عام 1951م وقع اختيار السنباطي وأم كلثوم على قصيدة رباعيات الخيام للحكيم والشاعر الفيلسوف وعالم الفلك والرياضيات غياث الدين عمر الخيام (1048-1131م) من ترجمة صديقهما الشاعر أحمد رامي. والقصيدة تصور حيرة الإنسان بين روحه التواقة إلى السماء وطينته التي تشده إلى الأرض، ومن أبياتها:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي أنني قد
عشت لا أشرك في وحدتك
وفي عام 1955م عاد السنباطي وأم كلثوم إلى أشعار شوقي، واختارا قصيدة «إلى عرفات الله» التي ترتبط بشعيرة الحج، وكتبها شوقي عام 1910م، وقدمها السنباطي في صورة موسيقية رائعة، تواكب حالة الشوق لمن يتمنى زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأداء فريضة الحج. وفي القصيدة وصف لمعظم مراحل الحج بداية من السفر، حتى لم شمل الشعوب العربية وغير العربية في مكان واحد. ومن أبيات القصيدة:
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران.. ذكر، وسنة
فما بالهم في حالك الظلمات
ويستمر تعاون الثنائي في إنتاج الأغاني الدينية الرائعة، فكانت قصيدة حديث الروح (عام 1967م) للشاعر والمفكر الباكستاني محمد إقبال (1877-1938م). وعن لحن وغناء هذه القصيدة قال محمد عبد الوهاب: «رياض يجبرك على أن تكون صوفيًّا، عايش في الملكوت وأنت بتسمع الأغنية».
ثم كانت رائعتهما الأخرى أغنية «القلب يعشق كل جميل» بالعامية المصرية للشاعر بيرم التونسي عام 1971م. وكانت تتحدث عن الحب الإلهي، وعن السلام النفسي الذي ينعم به من يزور مكة المكرمة. لحنها السنباطي بلحن مرح خفيف، يختلف عن أسلوبه الرصين في تلحين القصائد الدينية الفصحى، فكانت مقدمة سريعة الإيقاع مع توظيف متقن وبارع لآلة القانون في حوار متناوب مع الإيقاعات وجوقة الكمان؛ فصنع لحنًا شبيهًا بالابتهالات الدينية، به خليط من الروحانيات، ومزج بين الفرح والشجن.
وبلغ السنباطي قمة الإبداع الموسيقي في لحن قصيدة الثلاثية المقدسة عام 1972م للشاعر صالح جودت (1912م -1976م)، وسميت بالثلاثية المقدسة؛ لأنها تتكون من ثلاث لوحات شعرية، تتناول الأماكن المقدسة الثلاثة: الحرم المكي، الحرم المدني والمسجد الأقصى. وكان قد لحنها كبناء هندسي شامخ، وعلى ما فيه من تنوُّع وتميُّز في كل لوحة تجد هيكلاً عامًّا، يربطها جميعًا، وعمقًا وجدانيًّا يأخذ بالمستمع. ومن أبيات لوحتها الأولى:
رحاب الهدى يا منار الضياء
سمعتك في ساعة من صفاء
تقول أنا البيت ظل الإله
وركن الخليل أبي الأنبياء
أنا البيت قبلتكم للصلاة
أنا البيت كعبتكم للرجاء
كما تعاون السنباطي وأم كلثوم في أغنيات رابعة العدوية من أشعار طاهر أبو فاشا «على عيني بكت عيني»، و»تائب تجري دموعي ندما»، و»عرفت الهوى»، و»يا صاحب الراح». وتلك الأغاني الدينية ببعدها الروحي، ومضمونها الإيماني، إلى جانب الأداء الفذ لأم كلثوم، كانت جواهر متلألئة على جيد التاريخ الغنائي لأم كلثوم، وعلامات بارزة في عالم الغناء الديني والفلسفي، ونجومًا من سماء رياض السنباطي الموسيقية.
وهناك روائع لأغنيات دينية أخرى من ألحان رياض السنباطي، لا تقل عن الروائع التي غنتها أم كلثوم، منها: أغنية «لبيك يا ربي» للشاعر عبد الله شمس الدين وغناء المطربة فدوى عبيد، وقصيدة «سبحان علام الغيوب» لشاعر الزهد أبي العتاهية غنتها المطربة نجاح سلام. وكانت آخر القصائد الدينية التي لحنها السنباطي قبل وفاته قصيدة «الزمزمية» 1981م، وآخر ما غنت الفنانة عزيزة جلال قبل اعتزالها، وكانت من كلمات المستشار المرحوم ابن سودة سفير المملكة المغربية في لبنان بمناسبة زيارة الملك الحسن الثاني للديار المقدسة، وقد غنتها عزيزة جلال، ومن أبياتها:
إليك إلهي قد أتيت ملبيا
فبارك إلهي حجتي ودعائي
قصدتك مشتاقا وجئتك باكيا
وحاشاك ربي أن ترد بكائي
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم