م. بدر بن ناصر الحمدان
أحد أهم المعايير الرئيسة في تقييم المواقع المؤهلة للانضمام لقائمة التراث العالمي الثقافي والطبيعي بموجب اتفاقية باريس 1972م، هي «أن يمثل الموقع إحدى القيم الإِنسانية المهمة والمشتركة، لفترة من الزمن أو في المجال الثقافي للعالم، سواء في تطور الهندسة المعمارية أو التقنية، أو الفنون الأثرية، أو تخطيط المدن، أو تصميم المناظر الطبيعية».
هذا الاستحقاق ما هو إلا إنصاف لقيمة التراث العمراني كأحد أهم المكونات الرئيسة في تركيبة المدن، ورغم ذلك تبقى جدلية التراث العمراني حاضرة عندما يكون الحديث عن إدارتها وتنميتها، فهناك من لازال ينظر إليه على أنه مجرد حزمة من المباني القديمة والمتهدمة التي خلّفتها عربة التاريخ في عصور مضت، ويجب أن تبقى في معزل أو تتوارى في الردهة الخلفية للمدينة، أو في أحسن الأحوال توظيفها «كمنصة» فعاليات بشكل ربما لا يرتقي وقيمتها الحضارية.
الحقيقة أن مثل هذه النظرة «المبتذلة» يمكن أن تقصي كل جهود المدن المبذولة لاستعادة قيمها المعمارية، وشخصيتها العمرانية، وقد تُشكل فهماً خاطئاً لماهية التراث العمراني كمرجع رئيس في إدارة تلك المدن وما يتطلب ذلك من نظرة أكثر شمولية تمكّن من توظيفه واستثماره باحترافية في بناء مستقبلها، إِذ لا يمكن التخطيط لمستقبل أي مدينة دون ربط ذلك «عملياً» باستراتيجية فاعلة للمحافظة على ما تحتويه من تراث عمراني فريد، واعتماد خطط تنفيذية لإعادة تأهيله، كونه «القيمة الاستثنائية» الوحيدة التي يمكن أن تراهن عليه هذه المدن.
التحول الأهم في مراحل نمو المدينة السعودية حدث مع تأسيس صندوق التنمية العقاري عام 1975م، وما صاحبه من تنظيم مخططات سكنية جديدة خارج الكتلة العمرانية القائمة، حيث شُرع آنذاك في إقامة وحدات سكنية وفق ضوابط بناء مختلفة تماماً عن تلك التي نشأت عليها المدن في مراحل نموها التي سبقت ذلك التاريخ، وجاءت هذه الضوابط معمارياً وعمرانياً بنسخة جديدة «مشوهة» لم تجسد أي امتداد أو محاكاة لسابقتها، وهنا كانت مرحلة «الانفصال التام» عن النسيج العمراني التقليدي السائد، و»الانسلاخ» من جسد المدينة، وبداية لتحول جذري «غير مُعرّف» في نمط العمران، تلا ذلك توجيه مُركّز لأولويات التنمية تجاه التجمعات العمرانية الجديدة تلبية لمتطلبات السكّان من مرافق وخدمات وبنى تحتية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى الهجرة من أواسط المدن والأحياء القديمة والمواقع التراثية وتعطل وظائفها، ومن ثم تدهور حالتها الإنشائية، ودخولها لاحقاً في «غيبوبة عمرانية».
خاضت المدن السعودية بعد ذلك مهمة جديدة لاستعادة هويتها المفقودة، ومع بدء انتقال المدن من مرحلة «النمو» إلى مرحلة «التنمية» بدأت تظهر الحاجة إلى البحث عن مرجعية عمرانية محلية تساعد في العودة إلى الأصالة والتكامل في مرتكزات بناء المدينة، فبدأت مظاهر الاهتمام بالنسيج العمراني والعمارة التراثية من خلال مبادرات قادتها المجتمعات المحلية والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وشركاؤها، كانت تمثل في مجملها «عودة الحياة إلى المكان»، وهو تحد كبير وضع مسيري الإدارة العمرانية أمام مسؤولية التعامل مع مواقع التراث العمراني كعنصر رئيس في استراتيجية تطوير المدن.
مواقع التراث العمراني كانت وستظل المنطلق الرئيس لأي مدينة تبحث عن «مستقبل» واعد يجسد العلاقة المثالية بين الإِنسان والمكان، متى ما تم التعامل معها على أنها «أنوية نابضة»، و«أماكن ملهمة» لسكان المدن، وهذا يتطلب العمل بـ»منهج تنموي» مستدام يضمن لها نموًا طبيعيًا، ويمكّنها من ممارسة دورها الحيوي في منظومة التطوير والتنمية، فالعاطفة وحدها لا تكفي لبناء حجر واحد.