المكانة الأدبية الرفيعة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب جعلت كثير من النقاد يشيرون إلى إبداعه وإلى الدور الريادي الذي لعبه في تطوير الحركة الشعرية العربية.
وهذا الكتاب «بدر شاكر السياب في أيامه الأخيرة» تأليف أ. عبداللطيف اطيمش صدر مؤخراً عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع.. ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: هذه الذكريات الشخصية عن الشاعر بدر شاكر السياب تحاول رسم الصور الخاصة واللقطات التي سجلتها الذاكرة عنه في أوقات وأماكن مختلفة هي انطباعات كانت في الأصل مجموعة أفكار في أوراق مبعثرة وقصاصات من مفكرات يومية سجلتها قبل أكثر من خمسين عاماً لتكون جزءاً من مادة أدبية لسيرة ذاتية ظلت مؤجلة سنة بعد أخرى.
في هذه الذكريات عن «السياب» أحاول أن أسجل ما بقي منه في ذاكرتي منذ لقائي الأول في بغداد وحتى لقائي الأخير به في الكويت.
ما زلت أذكر تلك اللحظة التي اعتلى السياب فيها المنصة مرتدياً بذلة رمادية فضفاضة لم تكن مناسبة قط لجسمه النحيل، أخرج مجموعة من الأوراق من جيبه الكبير، بدأ يرتبها وبدلاً من أن يضعها فوق الطاولة الخشبية أمامه ويقرأ بارتياح فضل أن يمسك الأوراق بيديه تاركًا الطاولة متقدمًا قليلاً على خشبة المسرح، وبدأ يقرأ وهو واقف على الرغم من الألم الذي كان بادياً في ركبتيه الذي تطور لاحقًا ربما بسبب إصابته بداء السكري.
كان صوته واهناً لكنه عميق تحس فيه حرارة المشاعر النابعة من صميم الوجدان، استمر يقرأ بطريقة مسرحية، ربما غدت غريبة وغير مألوفة للحاضرين الذين لم يعتادوا رؤية شاعر يروح ويجيء وسط خشبة المسرح، يمشي ويؤشر بيديه الممدودتين.
ويروي المؤلف حادثة نجاة السياب من حادث قطار كاد يحدث لها.. ويقول: بدأنا نمشي هادئين مبتسمين مقتربين من السكة الحديد، وإذا بالقطار يندفع نحونا بلحظة جنونية خاطفة.. كان على مسافة أمتار قليلة، لا ندري من أين جاء كأنه بسرعة أسطورية خرج لنا من باطن الأرض من دون أن ننتبه إلى صوت عجلاته أو صافرة إنذاره.. وبلحظة غريزية كمن يواجه الموت جذبت السياب بقوة إلى الخلف.. تدحرجنا إلى الوراء وسقطنا تحت تراب السد.
بعد لحظات التفت إليه فوجدته ممتقع الوجه مصفر الملامح والتراب يعفر وجهه، قلت له بقلق: هل أنت بخير؟ تمتم بصعوبة وهو يحدق في وجهي بذهول: الحمد لله، لقد أنقذت حياتي، شكراً لك، قلت: الله أنقذنا جميعاً.. ما حدث شيء لا يصدق.