رقية سليمان الهويريني
لم يكن رميح بن محمد الرميح، ذلك الرجل الأسمر الطويل، سوى الرمز الذي قادني القدر لألتقيه، وهو القدر الجميل الذي تمثل بإنسان من البشر، يأكل ما يأكلون، ولكنه يحمل بين جوانحه قلبًا غير ما يحملون، وضميرًا غير ما يكنون!
التقيت هذا الإنسان الذي تحول من والد للزوج إلى أب لروح فتاة، فقدت والدها في الطفولة، فكان مزيجًا من الرجولة بما تحمله من مروءة وشهامة وسمو، ومن الأبوة بما تحويه من حنان ورقة وعطف، فضلاً عن كونه إنسانًا مثقفًا، وذا دراية بصنوف العلوم والمعارف.. فإن سألته وجدته خبيرًا بأنواع القهوة والتمور، وحصيفًا بمعرفة أنواع العسل والعطور، ذا ذائقة عجيبة بالفواكه والخضراوات تمامًا كذائقته للشعر والنثر وفنون الأدب واللغة والتاريخ والسياسة و(علوم المرجلة).
رافق العقيلات في صباه؛ فاكتسب منهم تحمُّل المسؤولية والصبر والترفع عن الصغائر؛ فكان عملاقًا شكلاً ومضمونًا.. وكان هو رميح بن محمد الرميح النموذج المحير الذي يصعب تصنيفه، والمعادلة الصعبة التي لا تقبل الحل (وجاهة وكرم نفس وجود مال، ولطف وحياء ومشاعر فياضة).
ولا تجد من قابله إلا ويرغب في القرب منه؛ فحديثه شيق مع تصوير بديع، وذكاء يفوق الخيال، وفكر واسع منير.
ولأنه كان بارًّا بوالدته بصورة مدهشة فقد نال بر أولاده بشكل مذهل، وحظي بمحبة أحفاده وأسباطه، بل أنسابه وأرحامه، وكل من يعرفه أو سمع عنه.. فالكل يسعى لخدمته بالرغم من بساطة طلباته، بل إنه نادر الطلب.. ونفس ذات إباء، اعتادت العطاء، يصعب عليها الطلب!
عاش الرجل على الكفاف بعكس ما تظهر حالته للناس من جود وكرم وسخاء حتى يظن به الثراء، وهو الثري بخُلقه، والغني بمآثره.
وقد أولعت نفسه في نهاية عمره بالصدقة والأوقاف حتى صارت سمة فيه؛ فحين يتوافر لديه مال، أو تصله هدية، يحولها لصدقة مثمرة؛ فهو لا يمنح مالاً فحسب، بل يقرنه بتوفير وسيلة للكسب كيلا يستمر الفقير عالة؛ فهو حينئذ يُكسبه كرامة، ترفعه عن التسول والسؤال، تلك الكرامة المعدية التي يصاب بها كل من عرف هذا الرجل!
في يوم السبت 20 إبريل 2019 فقدتُ هذا الرجل العظيم، وغيَّب الموت أبي وحبيبي ونور عيني دون أن يمهلني الزمن أن أنهل من معينه العذب، وأن أعب من بحر علمه وثقافته، ودون أن تطيب نفسي بالارتواء من عطفه وحنانه، ومداواته لها مما يجرحها، وليس مثله دواء!
كان اللقاء الأخير على نعشه وأنا أجثو على صدره، وكأنه سيرد السلام. أما بحياته ففي غرفة العناية بالمستشفى حين أمسكتُ بيده الكريمة، وقبَّلتها ودموعي تبلل أصابعه؛ لأسأله عن رضاه عني، فكانت إشارته التي أعرفها: (تمام الرضا).
فاللهم ارضَ عنه، وأحسن وفادته كما كان يحسن وفادة عبادك.
اللهم إن اليُتم يتجدد فالطف بي وبأحبائه، وارحمه رحمة واسعة، ووالديّ، وجميع خلقك.