محمد عبد الرزاق القشعمي
فوجئت بوجود عدد من أبنائنا ذوي الاحتياجات الخاصة بكراسيهم المتحركة يحيطون بجناح دار المفردات للنشر والتوزيع بمعرض الكتاب الدولي في الرياض عصر يوم الأحد 10 - 7 - 1440هـ الموافق 17 - 3 - 2019م، وعرفت من الأستاذ/ عبد الرحيم الأحمدي صاحب الدار أن المناسبة توقيع كتاب (سعود.. رحلة كفاح) للأستاذة/ نوال الناشي، وهي تحكي قصة علاج ابنها سعود الذي تعرض في طفولته المبكرة لخطأ طبي لعلاج الالتهاب المفاجئ الذي تعرض لها مما استدعى فحصه بخزعة من الحبل الشوكي التي قد تكون سببًا في إعاقة نموه الطبيعي. وجدت ولمست علامات الفرح بادية على وجوه الجميع وهم يحيطون بسعود ووالدته وهي توقع كتابها وتهديه لهم ويشاركها ابناها بذلك، لاحظت بعضهم (بنات وبنين) يحتضنون باقات زهور معهم ليقدموها لأم سعود، وهم على الكراسي المتحركة، وبعد انتهاء الاحتفال الرمزي انتقل الجميع إلى الممر الرئيس للمعرض مبتهجين وكأنهم في كرنفال احتفالي جميل وفي وسطهم سعود ووالدته الكل فرح وترى البسمة على وجوههم.
تسلمت منها نسختين من الكتاب الجميل الذي تحكي به أم سعود (نوال مفلح الناشيء) رحلتها مع علاج ابنها في الداخل والخارج، ونجدها تهدي هذه المذكرات.. إلى سعود وأقرانه الصغار.
تبدأ بفرحة ولادته بعد أخوته عبدالله وشقيقتيه الجازي والهنوف. وتقول إن سعود قد سمي تيمنًا بجده، وأن قدومه قدوم السعد والخير.
تقول إنه بعد الخروج من المشفى لاحظت كأم أنه ليس طفلها الذي عهدته، فنظرته اختلفت، عيناه تتقلبان تنظران إلى الأعلى حيث المصباح في السقف، وظهر ضعيف لا يتحرك، ويداه متيبستان..
أكمل عامه الأول دون حبو أو وقوف.. كان يقفز كأرنب لا يفصل فخذيه، هو مبتسم دومًا، زارت أهلها فلاحظت والدتها وضع سعود فأخذته في صباح اليوم التالي إلى مستشفى الأطفال فاكتشف المختصون أنه يعاني من شلل وتلف دماغي فطلبت من ابنتها المسارعة بعلاجه قبل أن يستفحل المرض، فبدأ بعلاجه عن طريق مراكز العلاج الطبيعي الذي ينشط عضلات الظهر والرجلين.. ولقلة وجود المراكز المتخصصة والمجدية وغلائها.. كانت الوجهة ألمانيا ثم إلى التشيك للعلاج التأهيلي.
قبل السفر للخارج جربت المستشفيات الحكومية والمراكز الأهلية فكان لتباعد المواعيد والثمن الباهظ الذي يطلبه المعالجون لو طُلبوا في المنزل، لذا لجأت إلى علاجه بمستشفى مدينة الأمير سلطان للخدمات الإِنسانية ومع ذلك لم تجد ما كانت تأمله من عناية وسرعة استجابة، فعند زيارة والده لاحظ حالات صعبة يعيشها الأطفال أشد مما يشكو منه ابنه سعود، فلهذا بدأ البحث عن المراكز الطبية المتقدمة في الخارج.. ومع ذلك تم إجراء جراحة وبعدها تطلب الأمر اتباع برنامج تأهيلي مكثف.. مما جعلهم يتعلقون بأمل الشفاء وهذا لا يتحقق إلا بالسفر للخارج.
فنذرت والدته - نوال- نفسها لسعود تاركة الأطفال الأسوياء بعهدة اختها الغالية (عيوش). وكانت أول محطة إلى ألمانيا لتشخيص الحالة.. فتطلب الأمر تنويمه بالمستشفى ومحاولة التأقلم مع أنظمته، في متابعة العلاج وإحضار الطعام من غرفة التغذية لها ومعالجة سعود البالغ سنة ونصف السنة وهو لا يأكل فقط يكتفي بالرضاعة، ولهذا تم فحصه بالأشعة للتأكد من سلامة البلعوم وتدريبه على الأكل. بقيت على هذه الحالة سنتين وفيها احتاج سعود إلى تدخل جراحي لإطالة أوتار الرجلين فظهرت نتائجها بعد شهر من الجبائر المدعمة وستة أشهر من التدريب، فأصبح طويل القامة بعد أن كان قصيرًا منحنيًا.. في هذه الأثناء تم فطامه وبدأ تناول الطعام الصلب بقطع صغيرة بعد تدريبه على المضغ والقضم.
والأم مهما كان قلبها لم يزل معلقًا بفلذات كبدها إخوة سعود الذين تركتهم لمواصلة دراستهم.. فكان يصلها إشعارات المدرسة بـ (الواتس آب) أن الهنوف لا تركز ولا تتفاعل معهم وأن الجازي كثيرة البكاء.. فعادت لتأخذهم معها إلى التشيك وتفويت عام دراسي عليهم.. فعاشوا في قرية لتأهيل سعود فقالت والدتهم: «.. كانت الغربة قرارًا قاسيًا على نفسي وعيالي ولكنه كان تحقيقًا لهدف تربوي أردته لهم قررت ألا اصطحب أحدًا من الخدم أو من الأهل لمساعدتي في رحلة العلاج، كنت أرغب أن يعتمد أولادي على أنفسهم يتعودون على العمل والجد لأجل أنفسهم، ويكتسبون قوة جسدية ومهارة في التعامل مع الأشياء من حولهم.. كان لدي رهبة من هذا القرار ولكنه كان ممتعًا بالنسبة لهم، أصبح عبدالله يتقن عمل الشاي والقهوة وغسيل الصحون الذي أكسبه قوة في حركة اليدين بعد أن كان يعاني من ضعف في قبضة اليد ولله الحمد. وجوجو التي تستمتع بالطهو أصبحت تتقن قراءة المقادير وخلطها ومساعدتي في تنسيق الأطباق والملابس أيضًا، أما الهنوف فتجد متعة غامرة في ترتيب المكان وغرف النوم وحفظ الأشياء في أماكنها المخصصة». فتعودوا على العمل الجماعي المنظم واللعب ومشاهدتهم التلفزيون.. الخ.
حَرِصت على خلق الفرص التربوية والقدوة أمام أطفالها فطبيعية البلاد وسط أوروبا البسيطة تساعد على تحقيق ذلك، وتستمتع بزيارة أهلها والدتها واخوتها فكانوا يراقبون وضع سعود الصحي وتقدم حالته ووضعه الحركي ويشجعونه، فكانت تشعر بالسعادة رغم الوحدة فنجدها تقول: «.. أكون مبتهجة بامتنان حين أسمع كلمة طيبة تبعث في نفسي الأمل وتقوي من عزمي وإرادتي في تحقيق هدفي وهو تأهيل سعود قدر ما يمكنه الوصول إليه من أداء حركي ووظيفي ليخدم نفسه فالمرام: ألا يحتاج لأحد فممارسة يومياته حتى يكبر بكل بساطة ويعتمد على نفسه».
قالت إنها تنقلت بين قرى التشيك التي تشتهر بمصحات علاجية متقدمة.. وأن سعود يعيش بانسيابية مريحة بكرسيه المتحرك المرافق لنا دومًا. فكل شيء معد وممهد من الرصيف إلى محطة الباص.. وكانت تقول: «.. دائمًا أتساءل لماذا كل هذه الإِنسانية لديهم وكل هذا التقدير واحترام سعود وأمثاله من الذين قدرتهم قاصرة في العيش بيننا، إن كل من لديه احتياجات خاصة بسبب إعاقة أو عجز لا يحظون في بلادنا مع الأسف بهذا القدر من التقدير والمراعاة وتوفير الوسائل المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة».
بدأ سعود يتقدم خطوات وهو ينظر إلى الباب يريد الوصول إليه.. وانفتح قلب أمه بالأمل فقد وضع قدمه الأولى على الأرض ثم أفلت يديه من السرير وهو ينظر إلى مقبض الباب.. وهي تتابع محاولاته من المطبخ وهو لا يدري.. وكانت أول خمس خطوات خارقة حتى أمسك بالمقبض.. تقول: «طرت فرحًا!.. أصفق له.. سعود شجاع.. سعود بطل.. بعدها تأكدت أن العلاج أتى ثماره وأن طفلي يكبر ويتطور ولله الحمد..».
وقالت إن سعود يسمع بحساسية مفرطة، وينظر بتركيز عالٍ.. أنصت لشرح البروفيسور (هوسلو) الوافي عن حالة سعود، وكأنه رسم خريطة دماغية له، وقال لي عبارة وضعتها نصب عيني طوال رحلة علاجه: «اهتمي بتعليم سعود لربما يخترع شيئًا لبلاده»! وقالت: لم استغرب من وصفه المبالغ فيه لابني فأنا أجد في سعود شيئًا مميزًا وأستقرىء له مستقبلاً مميزًا كإخوته والغريب أنني سمعت هذه العبارة من كثيرين يجهلون الحالة الصحية لسعود ولكنهم ينظرون إليه ببعد آخر.
وبدأت المرحلة الثالثة في العلاج رحلة التأهيل اللغوي والتخاطب في مصر أم الدنيا. تحية تقدير واحترام لهذه الوالدة الصبورة ومستقبلاً باسمًا لسعود واقرانه.