إن تنامي الوعي بالحركة الشعرية والعمل الإبداعي عامة أصبح في ازدياد, وليس من المفارقات أن لا يكون هذا التنامي مطردًا مع المجتمعات العامة والشعبية؛ لأن التطور والتنامي منوط بدائرة المبدعين والنقاد المهتمين, فالعالم يعيش مرحلة متطورة في التاريخ من حيث المنجز البشري والتنوع الإنتاجي في كافة الأصعدة. والقصائد الشعرية جزء من تلك المنجزات التي باتت أكثر قربًا من حركة الوعي والتداول, ويسهل كشف مستواها من حيث الجودة والمهارة والإتقان الإبداعي حين تلقى في فضاءات الشعر..., وهذا ينعكس على تحسين جودة المنجز والسعي في مواكبته لروح العصر وتحدياته وظروفه وملابساته من جهة, والقدرة على الكشف عن مستوى فعالية ذلك المنتج من جهة أخرى من قبل المبدعين والنقاد, ربما يختلف البعض في تلقي الجمهور لهذا الوعي, نعم, وإنما قصدت تلقي الشعراء والنقاد والجمهور المتذوق من حيث التمييز بين تلك الأعمال في مستواها الإبداعي والأدائي, هل ستصمد إبداعيا أمام هذا الانفتاح الثقافي الهائل في القنوات الاتصالية والتزاحم المعلوماتي والتقارب البشري في التجارب والعلوم والخبرات الإنسانية عبر البيئات والثقافات المتباينة والمختلفة؟!
وهذا ما يحتِّم على فضاءات الشعر أن (تفلتر) الأجواء قليلا, وذلك من خلال تروي الشعراء وتمهَّلهم في إنضاج الصنعة الشعرية قبل إلقاء القصيدة, وتفحُّصها وتثقيفها حتى تتخمر التجربة الإبداعية وتبلغ منتهاها من حيث العمق في المعنى, والتركيب الدلالي وقوة الإيحاء الرمزي وتشكيل الصور والإيقاع النغمي الدال...وهذا ينعكس منطقيًا على حجم النتاج الشعري من ناحية الجودة النوعية أولا, ويقود مآلا إلى ترشيد الإبداع وقلَّة الإنتاج في الكم العددي والكيف النوعي؛ ويؤول, أيضًا, إلى قصر نفس القصائد من حيث الامتداد, مما يفتح المجال للشعراء أن يعيدوا صياغة التفكير الكتابي للقصيدة والامتداد بالمعاني والأفكار التي تضمنتها من خلال التشكيل الحسِّي البصري لكتابة الأبيات والأشطر وإعطائها حقها من التمكين الدلالي في الوعي الإبداعي والدويِّ في قرارة النفس وتحريك مكامن الشعور والحسِّ وتشربها وانفتاح البعد الرمزي الإيحائي... إن هذا التشكيل البصري الكتابي يُعدُّ نوعا من البيان الجديد لمعاني الشعر الذي يعود بالشعر إلى معهده الأول حيث المشافهة في التلقي فيُتغني به ويتنغم بمستويات الصوت ونبرات الحروف في إخراج المعاني وتصويرها, فيمكن أن تعوِّض ذلك الأداء الكلامي الحيِّ وتعيد صوت النبرات المفقودة؛ فهو بمثابة بعث لشيات المعاني في زوايا الجمل داخل النص وانتعاش طاقتها الدلالية وإيحاءات الصور والرموز... وهذا ما يجعل هذا النوع من الكتابة أمراً دقيقًا يراعى فيه تصوير الإحساس بالمعنى وارتداد نغم حروف الكلمات من خلال ترتيب نسق الجمل الدلالية شطرًا أو كلمة أو حرفا واحدًا ربما, هو ما يوضح حجم الخطأ فيمن وهم أن هذا النمط من الكتابة يلائم جميع مستويات القصائد وعدد أبياتها, أو من يعده أمراً اعتباطيًا, ينُظر فيه إلى جانب التشكيل البصري ولا صلة له ببنية النص ودلالته!
إن أجمل ما يمكن أن يوصف به هذا النمط الكتابي بأنه أشبه ما يكون بنوتة شعرية لموسيقى النص ودلالة المعنى في بنية القصيدة, استطاع الشاعر من خلاله أن يبرز جوهر القصيدة في تأنيها لعرض المعنى والفكرة, وتلقي الدهشة بهدوء وسكينة, وأن يعقد تحالفًا بنائيًا من حيث الشكل الكتابي مع الشعر الحر التفعيلي وغيره...فكأنه آخى بين أنماط الشعر الحديث ليس فقط من جانب الشكل, وإنما من الجانب الإيحائي للمعاني أيضًا, وهذا ما يفسر أن هذا النمط الكتابي يتأكد في كتابة القصائد ذات اللغة الشعرية العالية والعمق الدلالي البعيد والتكثيف المعجمي في لغة القصيدة وصورها التي لا تمتد كثيرًا بعدد الأبيات, وإنما هي كتلة شعرية واحدة امتدت من خلال هذا الإيحاء الكتابي.
** **
د. يوسف الدعدي - جامعة الباحة